يتساوى معظم البشر في العقل الفطري، وأما العقل المشكل فله جذور قديمة وتحيطه البيئة التي ينشأ فيها، والتي تؤصل لطرق التفكير لديه. ولهذا لا يوجد قصور في تكوين العقل العربي في ذاته، وإنما في العقبات والظروف التي يوجد فيها مما جعله يتراجع، وهو الذي بُني على التلقائي غير الممحص وما فوق النقد، وخاصة إذا اعتبرنا أن العقل البشري الأصل فيه النقص والتحجر، ولا بد من مؤثر خارجي يصدمه أو يتفاعل معه ليحركه ويحرر طاقاته الداخلية الكامنة. فالمعرفة وقود أي أمة متقدمة، ووقود المعرفة هو عقول العلماء والمفكرين والمبدعين، وفي الثقافة العربية يرتبط العقل بالتاريخ في بنيته الأساسية مما جعل العقل ترادفياً يميل للبيان والبديع ويتغنى بالترادف، ولهذا في الثقافة العربية تجد العالم ومن يحمل شهادة علمية عليا يسعى بشكل رئيسي للمنصب والتقدير الاجتماعي إلا من رحم ربي، ولذلك هناك حاجة ملحة لبرامج تأهيلية تعد جسوراً للمعرفة من خلال مراكز ومعاهد عليا للمعرفة لتأهيل غير تقليدي للباحثين المتميزين بعد التخرج من الجامعات، أو يتم ترشيحهم من جهات عملهم للبحث في شتى العلوم والمعارف ويتم منحهم مؤهلات مهنية عليا تساوي الماجستير والدكتوراه. وها نحن منذ قرنين من الزمن ننهل من مختلف الجامعات في العالم، ولا نزال متخلفين عن الركب المعرفي، كون الإشكالية الأساسية لم تحل بعد، وكل ذلك يرجعنا لمرتكزات البحث والتجربة العلمية! فالعقل العربي عقل قياسي كذلك يبحث دائماً عن أصل ليقيس عليه، فتجد نفسك في العمل عندما تقدم نموذجاً لعمل ما يقول لك مسؤولك بشكل مباشر: ما هي أفضل الممارسات التي تدعم مشروعك؟ ويصاب بالصدمة إذا كان جوابك بأنك اعتمدت على معرفتك وخبراتك التراكمية.. وطبعاً يعتبر ما قدمته غير جدير حتى بالنقاش، وقد تنتج معرفة من القياس، ولكنها معرفة مكررة وغير إبداعية، ولا توجد إضافة في القياس في المجمل. فالمعرفة مرتبطة بالتقدم الحضاري في مضمون المفاهيم البنيوية والعقل العربي المسلم بالتحديد قبل أن يسأل كيف صنع جهاز ما وماهي فوائده، يسأل المنطق الناسخ فيه هل استخدامه حلال أم حرام ونستخدم منتجات الغرب والشرق دون أن نسأل عن روحها وغاياتها، ولم أسمع في حياتي مسؤولاً عربياً يتحدث عن لماذا نريد أن ننتج المعرفة غير مسألة الكسب ومنافسة الغير في سباق التقدم.. فما هي الغاية الكبرى التي نريد أن نكتسب المعرفة من أجلها؟ وهل نسعى للمعرفة من أجل المعرفة في ذاتها؟ ولهذا يتخرج الطالب العربي ويحمل شهادة الدكتوراه ليصبح موظفاً وليس باحثاً في مجال تخصصه؟ ففي الأمم المتقدمة تقوم الحكومات والمؤسسات السيادية والحيوية بالتعاون مع الجامعات والمعاهد والكليات بتحديد قائمة المواضيع التي يجب أن تشمل كجزء مهم في مسيرة البحث العلمي الذي يخدم مصالح الدولة العليا وتعزيز المعرفة. أما لدينا فلا توجد خطة علمية بحثية عليا لوزارات التعليم العالي، والجهات الحكومية مربوطة بالفرص والتهديدات ونقاط الضعف والقوة التي تدعم سياسات واستراتيجيات الحكومة، كما ينقصنا وجود حاضنات توسيع المعرفة للخروج بأفكار حية تدخل في بيئة ركود، وتأتي بمنتجات مهمة وأخرى حيوية لتفعيل دورة الحضارة. فالمجتمع العلمي ينشئ بنشوء المؤسسات والجماعات العلمية المترابطة والمحور الأساسي هنا هو اللغة، فلن تقوم قائمة للمعرفة في الوطن العربي إلا باللغة العربية، فالتقدم يأتي من الأمور العضوية ومن الأصل وليس الفروع، ولن نصنع معرفة محلية من دون وضع البنى التحتية لجعل اللغة العربية هي وسيلة الوصول للمعرفة، فسكان الأمة العربية كالشجرة التي لها جذور في الأرض، وعندما نقطع الجذور وهي الثقافة واللغة والهوية والدين، لن تنبت الشجرة وستموت حتماً، أو تعظم نفسها بأطروحات ضخمة ليس لها مردود مباشر على تنمية المجتمع. ومبهر أن نبتعث الطلبة لجميع دول العالم للتحصيل العلمي، لكن هذا ليس الحل بعيداً عن تأسيس ثقافة البحث العلمي مجتمعياً وارتقاء مؤسسات التعليم العالي المحلية بالمخرجات البحثية باللغة العربية مع الاستفادة من الطلبة النابغين على مستوى العالم للتأسيس لمشروع نهضوي حقيقي، ولك أن تعلم أنه في ستينات القرن العشرين ابتعثت مصر 3500 طالب وطالبة دكتوراه إلى الدول الغربية المتقدمة، وكذلك العراق التي ابتعثت 5000 شخص لنيل الدكتوراه، ولكن أين هي الآن مصر والعراق معرفياً؟ ومن المؤسف أن نقول إن المعرفة وحدها غير كافية لترتقي بمجتمع تنقصه مكونات التمكين المعرفي! *كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.