كما يستعمل لفظ «النموذج» في العلوم الطبيعية والرياضية، فهو يستعمل أيضاً في الفلسفة، حيث طالما راود الفلاسفة مثل أفلاطون وضع «مثال» واحد مجردٍ صوري عقلي خالد لكل الوقائع الجزئية المحسوسة المادية المتعددة. فالإنسان مثال للبشر جميعاً. والقيم الأخلاقية والمعايير الخلقية مطلقة لا يحدها زمان أو مكان، على ما هو معروف في نظرية المثل ‏Ideas ?عند ?أفلاطون. ?وهي ?إغراء ?إنساني ?عام ?وطالما ?ثار ?الواقعيون ?والتجريبيون ?والماديون ?والوضعيون ?ضدها. ?إنها ?أقرب ?إلى ?التمنيات ?والرغبات ?الدفينة، ?والتطلع ?إلى ?الثابت ?والدائم ?والأبدي ?تجاوزاً ?لهذا ?الواقع ?المادي ?الزائل ?بموت ?الإنسان. ?إنها ?محاولة ?لتجاوز ?الفناء ?إلى ?الخلود. ?وهو ?الدافع ?الذي ?قام ?عليه ?الدين، ?فهو عزاء ?للإنسان ?بأن ?الموت ?ليس ?هو ?النهاية، ?وأن ?الزوال ?ليس ?خاتمة ?المطاف. ثم انتقل إلى علم النفس. ففيها تصور يونج أنماطاً مثالية أولى تدور حولها الظواهر النفسية وتعبر عنها. وفي تفسير الأحلام تتم العودة إلى هذه النماذج الأولية ‏Archetypes. ?فالأحلام ?تعبر ?عن ?رغبات ?دفينة ?في ?الإنسان. ?فيها ?يتكشّف ?عالم ?اللاشعور. ?ويتحرر ?بها ?الإنسان ?في ?النوم ?من ?كل ?مظاهر ?الكبت ?الاجتماعي ?في ?اليقظة. وفي العلوم الاجتماعية تحدث ماكس فيبر عن الأنماط المثالية ‏Ideal types ?التي ?تتحكم ?في ?الظواهر ?الاجتماعية ?كرد ?فعل ?على ?المادية ?التاريخية ?عند ?ماركس. ?وهي ?سابقة ?على ?الوجود. ?ومظاهر ?الوجود ?الاجتماعي ?تجليات ?لها. ?وهي ?أشبه ?بالقوانين ?الاجتماعية ?الثابتة، ?أو ?الأشكال ?والنظم ?الاجتماعية ?التي ?يحددها ?الواقع ?الاجتماعي ?بناء ?على ?استقراء ?الظواهر ?الاجتماعية ?وحصرها ?في ?نماذج ?محددة. وقد سماه أيضاً ميشل فوكو «البنية» ‏Structure ?أو «?الوحدة ?المعرفية»، ?تظهر ?في ?الأطراف ?أكثر ?مما ?تظهر ?في ?المركز، ?وعلى ?الهوامش ?أكثر ?من ?القلب. ?وهي ?أيضاً ?سابقة ?على ?المجتمع ?والتاريخ. ?والبنية ?ليست ?أنماطاً ?مثالية ?بل ?هي ?شكل ?ومضمون ?في ?آن ?واحد، ?تتحكم ?في ?طبيعة ?العلاقات ?الاجتماعية ?في ?نظام ?وفي ?أشكال ?الصداقة ?والعداوة ?وفي ?صيغ ?الكلام ?ونظم ?القيم ?والثقافة. وقد تنكشف البنية، طرفان ووسط في جدل ثلاثي، من طرف إلى طرف نقيض إلى الوسط، أو من الطرف إلى الوسط إلى الطرف النقيض، أو من الوسط إلى الطرف ثم إلى الطرف النقيض. البنية أيضاً جدل وليست ضده. فلا فرق بين البنية والتاريخ. البنية تاريخ ممكن، والتاريخ بنية متحققة. وقد يوجد النموذج في الحياة اليومية، النموذج الحي في القدوة: الأب أو الأخ أو الأم أو الزوجة أو الصديق أو الزعيم. وهو ما يتوافر في قاموس العرب السياسي كألقاب لبعض الرؤساء مثل «الزعيم» أو «الزعيم الخالد»، «الأخ القائد»... الخ. وفي الثقافة الشعبية هناك البطل الشعبي وابن البلد و«الفتوة» وربما الصعلوك! ولذلك تتناقل الأجيال سير الأبطال و«الفتوات» في السير الشعبية مثل «السيرة الهلالية» و«الزناتية» وغيرها. هو ما ينبغي أن يكون عليه المواطن وما يتوق إليه، ما يتمناه لولا الظروف المحدِّدة المانعة. وهو النموذج الذي عليه يقوم المخلص. والسؤال هو: أين النموذج؟ هل في الذهن المجرد كالنماذج الرياضية أم في الواقع الخارجي، في الطبيعة والتاريخ كالنماذج الطبيعية وقوانين التاريخ أم في النفس البشرية تكتشفها في التجارب الحية أم في الخارج وفي الداخل على السواء؟ ?فالحقائق ?عامة ?وواحدة ?موضوعة ?مسبقاً ?وليست ?فقط ?مستقراة ?من ?الواقع ?والتاريخ. ?هي ?الكليات ?العامة ?السابقة ?على ?الجزئيات ?والحاصرة ?لها. ?وهي ?مدونة ?محفوظة. وقد يكون في كل الآفاق الممكنة، في النفس وفي العالم، في العقل وفي التاريخ، في الداخل وفي الخارج، نموذجاً للتوحيد بين هذه العوالم كما قال إخوان الصفا بالتماهي بين العالم الأصغر ‏Microcosm ?والعالم ?الأكبر ?Macrocosm. النموذج في النهاية وظيفة معرفية وسلوكية، تساعد على الفهم والفعل. يهدي إلى الحق ويرشد إلى الطريق حتى لا يقع الإنسان في الشك والنسبية واللاأدرية في النظر والتردد والتشتت والتضارب في العمل. النموذج هو موحد الطاقات النظرية والعملية. وهي الوظيفة نفسها التي يؤديها الإيمان في الشعور. ----------------- * أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة