في نهاية عام 2007 وبداية 2008، كانت أفغانستان واحدة من أخطر الأماكن في العالم بالنسبة للقوات الأميركية. ومع استمرار تركيز أميركا والعالم على «الإمدادات العسكرية» في العراق، ومحاولة إدارة بوش إنقاذ الموقف السياسي والعسكري الخطير هناك، مارست القوات الأميركية في أفغانستان مبدأ «اقتصاد القوة»، أحد مبادئ الحرب التسعة، وهو تعبير لطيف لوصف خوض المعركة اليائسة في كثير من أجزاء أفغانستان، بينما كانت قوات «طالبان» و«القاعدة»، تعززان وجودهما في الإقليمين الجنوبيين «هيلمند» و«قندهار». ونتيجة لندرة الموارد، بما في ذلك القوات والطائرات المروحية والمقاتلات وحتى الطائرات من دون طيار، وجدت مجموعات صغيرة من القوات الأميركية نفسها في كثير من الأحيان في معاقل منعزلة بين الجبال الوعرة، تحارب مجموعات منظمة تنظيماً جيداً من مقاتلي «طالبان» وحلفائهم. وفي مناطق نائية من أفغانستان، المعروفة بـ«مقبرة الإمبراطوريات»، كان الجنود الأميركيون لا يزال منوطاً بهم السيطرة على مبانٍ، ومحاربة المتمردين، والفوز بقلوب وعقول السكان المحليين. وفي كتابه الجديد، «القلة المختارة.. سرية المظلات وكفاحها البطولي للنجاة في جبال أفغانستان»، يروي الكاتب «جريج زورويا» التضحيات التي قدمها نحو 150 جندياً أميركياً من تلك «السرية المختارة». ويصف الكتاب مزيجاً فريداً من الإرهاب والرعب، وقصص الصداقة التي تجلبها الحرب بين أفراد السرية العسكرية. وكانت «السرية المختارة»، في الكتيبة الثانية من قوة المظلات 503 من بين هذه المجموعات. وكانت مهمتها الموكلة لها في إقليم «نوريستان» في شمال شرق أفغانستان، وهي منطقة معروفة حتى بين الأفغان بأنها منعزلة، وسرعان ما وجدت السرية نفسها منخرطة في واحدة من أكثر معارك الوحدات الصغيرة كثافة في الصراع الأفغاني بأسره، حسب المؤلف. وسرعان ما يلاحظ القارئ من خلال تصفح الكتاب الاختلاف الكبير بين روايات المعارك القتالية من العراق وأفغانستان، والذي يظهر أن حركة «طالبان» أكثر تنظيماً، وأكثر رغبة في الانخراط في قتال مباشر مع القوات الأميركية من المتمردين في العراق. ويشير المؤلف إلى أنه في حين ساعدت التضاريس الوعرة حركةَ «طالبان»، التي تفضل أساليب نصب الكمائن والكر والفرّ، كان الأميركيون في تلك الأوقات يمركزون القوات في نقاط قتالية منعزلة عن عمد، بهدف تحفيز مقاتلي «طالبان» على شنّ هجمات، آملين في أن تقع الحركة في فخ قوة النيران الأميركية الفائقة، عسى أن تحقق الهدف منها. ومثلما تصف قصص المعارك القتالية المرعبة في الكتاب، «لسوء حظ أفراد (السرية المختارة)، تحققت بالفعل الرغبة في إخراج مسلحي طالبان من مخابئهم». وفي كثير من المناسبات، بما في ذلك المعركة الكارثية النهائية التي اشتهرت باسم «معركة وانات»، تمكنت «طالبان» من حشد عدد كبير من المقاتلين، واستغلال الجغرافيا لصالحها، واقتحام عدد من المواقع الأميركية المنعزلة. ويقول «زورويا»: «لولا المقاومة الشرسة من جنود المظلات الأميركيين، ووصول المدفعية وطائرات الهيليكوبتر أو المقاتلات لتقديم الدعم لكانت الكوارث التي واجهتها القوات الأميركية أكبر بكثير». ويمثل الوصف المنهجي المبني على أبحاث متعمقة للأحداث المؤدية إلى معركة «وانات»، وتصدي القوات الأميركية لقوة مهاجمة تفوقها من العدد بثلاثة أو أربعة أضعاف، محورَ الكتاب. وكما يروي «زورويا»، فقد كانت معركة «وانات» في يوليو 2008 واحدة من أكثر المواجهات سيئة السمعة في الحرب الأفغانية بأسرها، إذ راح ضحيتها عدد كبير من الجنود الأميركيين، وأدت إلى اتهامات واتهامات مضادة وتحقيقات من قبل الجيش لتحديد سبب اقتحام النقاط العسكرية الأميركية والخسائر الفادحة التي تكبدها الأميركيون. وأسفرت المعركة عن إجراء أربعة تحقيقات، وتمت مراجعة الأداء المهني الحربي لعدد من ضباط الجيش الأميركي، وأفضى ذلك إلى تعليق ترقياتهم أو إلغائها. وأدت تحقيقات الجيش الأميركي في المعركة إلى ردة فعل غاضبة من عائلات وأقارب الجنود القتلى، وقال والد أحد الجنود الذين قتلوا في المعركة: «إنهم يلقون باللوم كله على قيادة الكتيبة وحدها، وبذلك فهم يلومون ابني القتيل ويحملونه مسؤولية ما حدث له، وفي نهاية الأمر فهم يخطئون الهدف الرئيس». واضطر الجنرال «ديفيد بترايوس»، الذي كان قائداً للقيادة الوسطى حينها، إلى إصدار أوامر فورية بإجراء تحقيق فيما حدث في «وانات». وتوصل التحقيق الأوَلي الذي أجراه ثلاثة من جنرالات قوات «المارينز»، إلى أن قادة الكتيبة قصَّروا في القيام بمسؤولياتهم التي تلزمهم بتوفير القيادة والموارد العسكرية الكافية للجنود المقاتلين في الميدان. وبادر «بترايوس» بمراجعة النتائج التي توصل إليها التحقيق، فقرر أن قائد الفيلق العسكري، الذي يعتبر قائداً أعلى في المنطقة، أخفق في أداء واجباته الحربية. ومن ثم، قرر «بترايوس» توجيه رسائل توبيخ لجميع الضباط المسؤولين تمهيداً لتقاعدهم. وأثار قرار التوبيخ جدلاً واسعاً في أوساط الجيش حتى قبل أن يقرر الجنرال «جون كامبل»، قائد القوات الأميركية في أفغانستان آنذاك، تمزيقه وتخفيفه إلى عقوبة أقل. وفي حديث وجهه «كامبل» إلى عائلات وذوي الجنود القتلى، اعتبر أن رسائل التوبيخ كان من شأنها أن تلقي بتأثيرات سلبية على قادة معارك أخرى، كثيراً ما يتعين عليهم اتخاذ قرارات صعبة في ظل توفر معلومات ميدانية محدودة. واعتمد «زورويا»، المراسل الحربي السابق، في بحثه على عدد كبير من المصادر، منها مئات الحوارات الصحفية مع الناجين من المعارك وأسر الضحايا، وتقارير عمليات تشريح جثث القتلى، وتسجيلات فيديو للمعارك التقطها جنود ومتمردون من «طالبان». ويبلي المؤلف بلاءً حسناً في كشف قصة المعركة بأسرها، ابتداءً من سلسلة القرارات التي دفعت بقادة في الجيش إلى تأسيس مثل هذه النقاط العسكرية، إلى الجدل المحتدم الذي أثارته تحقيقات ما بعد المعركة والعاصفة الإعلامية التي سببتها. ويختتم «زورويا» كتابه بتعليقات الجنود الناجين من السرية، وأفراد أسر الجنود الذين سقطوا، محاولاً تسليط الضوء على تضحية هؤلاء الجنود دفاعاً عن مصالح بلادهم. وائل بدران الكتاب: القلة المختارة المؤلف: «جريج زورويا» الناشر: دا كابو برس تاريخ النشر: 2017