أثارت إقالة مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين مؤخراً ضجة كبيرة حول المزاعم عن تدخل روسي في الانتخابات الأميركية، حيث نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» افتتاحية شبّهت فيها قضية فلين بـ«فضيحة ووترغيت»، معبرةً عن «صدمتها وعدم تصديقها» إزاء دخول مسؤولي حملة ترامب في اتصالات مع مسؤولين استخباراتيين روس، مطالبةً بتحقيق من قبل الكونجرس في «ما إن كان أفراد على مستوى عالٍ في حكومة الولايات المتحدة قد ساعدوا مصالح دولة تحاول عرقلة السياسة الخارجية الأميركية منذ أيام الحرب الباردة». وبالطبع، فقد استخف الرئيس دونالد ترامب بهذه الاتهامات معتبراً إياها مجرد «خديعة» و«سخيفة». هذا في حين دعا زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر إلى اجتماع طارئ للديمقراطيين للتباحث حول كيفية إلقاء الضوء على هذه القضية. وعندما تتجه واشنطن عادة نحو مثل هذه الحالات من الجدل، كثيراً ما يكون الحكم السليم على الأمور هو الضحية. ولعل من المفيد التذكير هنا ببعض خلفيات الموضوع محل النقاش نفسه. فبعد الانتخابات، علمنا أن «وكالة الاستخبارات المركزية» و«مكتب التحقيقات الفيدرالي» خلصا إلى أن مسؤولين استخباراتيين روسيين كانوا وراء عملية سرية لقرصنة وتسريب رسائل بريد إلكتروني من «اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي» ومدير حملة كلينتون، جون بوديستا، بهدف الإضرار بكلينتون. ولدى اطلاعه على التقرير الذي كان لا يزال سرياً، بادر الرئيس أوباما، بعد إعلان نتائج الانتخابات، بمعاقبة الروس، فطرد 35 موظفاً روسياً يشتبه في أنهم عملاء استخباراتيون وفرض قيوداً أخرى على الروس. غير أن الأدلة المفرج عنها حتى الآن بخصوص هذه التهمة الخطيرة ضعيفة جداً إلى درجة أن «نيويورك تايمز» اعترفت بأنها «لا تحتوي على أي معلومات بشأن الكيفية التي جمعت بها الوكالات معطياتها أو خلصت إلى هذه الخلاصات». ولا شك في أنه ينبغي تشكيل لجنة مستقلة للنظر في ما تم القيام به، وما ينبغي القيام به لتجنب تكرار حدوث ذلك في المستقبل. ومن المخجل أن جمهوريي الكونجرس اختاروا عرقلة هذا الجهد. بيد أن إقالة فلين تثير أيضاً بواعث قلق أساسية. فوفق تسريبات وكالة استخباراتية، فإن الحوارات التي تم اعتراضها بين السفير الروسي سيرجي كيسلياك وفلين، الذي كان وقتها مستشار الأمن القومي المقبل للرئيس المنتخب ترامب، تشير إلى أن فلين قد يكون حث الروس على عدم المبالغة في الرد على عقوبات أوباما. ويذكر هنا أن بوتين اختار عدم الرد في حالة تستدعي عادة الرد بالمثل. ووفق التسريبات، فإن وكالات الاستخبارات نقلت إلى وزيرة العدل بالنيابة سالي ييتس بواعث قلقها بشأن احتمال أن يكون فلين عرضة لابتزاز روسي. فنقلت سالي تلك التخوفات إلى ترامب. وبعد بضعة أسابيع، أقيل فلين بسبب تضليله لنائب الرئيس مايك بينس، من بين آخرين، بشأن فحوى محادثاته. ولكن هيئة تحرير «نيويورك تايمز» وآخرين يلمحون إلى أن مجرد الاتصال مع مسؤولين روس هو عمل شائن، حتى لا نقول إجرامياً، وأن القول إن تحسن العلاقات بات وشيكاً مع رئيس جديد يمثل خيانة تقريباً! وهذا غريب في الواقع. لقد تحدث ترامب بشكل إيجابي عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طيلة الحملة الانتخابية، قائلًا إنه سيسعى إلى إشراك روسيا في القتال ضد تنظيم «داعش». ولئن كان فلين قد طمأن السفير الروسي بأن عقوبات أوباما لن تثني ترامب عن تنفيذ نواياه المعلنة بخصوص العلاقات بين البلدين، فإنه كان يقوم بما قد يقوم به أي مستشار أمن قومي لرئيس منتخب. ولا شك في أن فلين -ومثلما سيكتشف أي شخص يقرأ كتاباته- غير مؤهل لترؤس مجلس الأمن القومي. ولكن التحدث مع السفير الروسي أو مع «مسؤولين استخباراتيين روس» مفترضين حول نوايا الرئيس المقبل ليس أيضاً عملاً تخريبياً. وما ينبغي أن يكون مبعث قلق في الحقيقة هو تسريب محادثات هاتفية سرية تم اعتراضها، في ما كان من الواضح أنه جهد ناجح لاستهداف فلين والتخلص منه. كما أن غضب ترامب من التسريبات ينبغي ألا يطعن أيضاً في شرعية قلقه. ولا شك في أن استخدام أجهزة الاستخبارات لتسريب معلومات سرية من أجل إضعاف رئيس منتخب دستورياً من قبل الشعب الأميركي -بغض النظر عما نعتبره عدم أهلية من جانبه- يمثل سابقة خطيرة. والواقع أن تعبير ترامب عن أمله في التعاون مع روسيا أثار قلقاً كبيراً على أعلى مستويات المؤسسة الأمنية القومية، وذلك لأن التهديد الروسي المبالغ فيه يساعد على تبرير الميزانيات العسكرية المتضخمة وتوحيد حلفاء باتوا يتشاجرون على نحو متزايد. ومثلما قال مؤخراً روبرت هانتر، السفير الأميركي السابق إلى «الناتو»، فإن «الادعاءات بشأن تدخل روسي في حملة الانتخابات الأميركية أضحت أداة للحد من، إن لم يكن عرقلة، محاولات الرئيس ترامب لتغيير المسار المنحدر للعلاقات الأميركية والغربية مع روسيا». وخلاصة القول إن التدخل الأجنبي في الانتخابات الأميركية غير مقبول، وتسريب معلومات استخباراتية سرية لتشويه سمعة رئيس منتخب يمثل سابقة خطيرة. ولذلك، نحن في حاجة لتحقيق مستقل يخرج بتقرير علني حول ما حدث والخطوات الواجب اتخاذها من أجل تجنب الاثنين. ولكن ما لا نحتاجه هو تكرار لهستيريا الحرب الباردة تقطع النقاش، وتشهّر بالمشككين، وتقوض أي جهود لبحث مجالات اتفاق مشترك مع روسيا بما يخدم مصلحتنا الوطنية الخاصة. كاترينا فاندن هوفيل محللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»