ليست الخصوصية فكرة متفقاً عليها، فرغم أصالتها وحيويتها، فإن مساحة الحركة داخلها شاسعة إلى حد التناقض التام بين معتنقيها، أو المنافحين عنها، المتحمسين لها، وبين رافضيها جملة وتفصيلًا، ممن يؤمنون بأن العالم صار «قرية كونية» من الضروري أن يذوب الجميع فيها، ليس في مجال التقنيات فحسب، بل أيضاً في فضاء القيم والمعاني الإنسانية. والأكثر إثارة للجدل أن المؤمنين بالخصوصية ليسوا على عقل وقلب رجل واحد في التعامل معها، بل إن بينهم أيضاً اختلافات تصل إلى حافة التناقض في بعض الأحيان. فهناك من يتعامل مع المسألة بصرامة وحدّة، إذ لا يريد أن يتفاعل أو يستفيد مما لدى الآخر، وإن وجد نفسه منساقاً بحكم الواقع إلى الاستعانة أو الاسترشاد بما لدى «الغرب» مثلاً، فلا يعدو هذا بالنسبة له أن يكون «بضاعتنا رُدت إلينا»، في إحالة إلى العطاء الغزير الذي منحته الحضارة الإسلامية في أيامها الزاهرة للغرب. وعلى الطرف الآخر، هناك من يؤمن بتلاقح الحضارات، ويعتقد اعتقاداً راسخاً في أن المسلمين بحاجة ماسة إلى الاستفادة مما لدى الآخرين من عطاء، في مختلف المجالات، التقنية والإنسانية، باعتبار «الحكمة ضالة المؤمن أنّي وجدها فهو أولى بها». على هذين الطريقين، يقف الخطاب الإسلامي بشتى أطيافه من فكرة الخصوصية، موزعاً بين اتجاهين، الأول يتمثل في نظرة رحبة للخصوصية، لا ترى أي غضاضة في المزاوجة بين ما لدينا وما يأتينا من الخارج، بشرط أن تكون النسبة الغالبة مما هو عندنا، وأن يشكل هذا القاعدة التي نبني فوقها، والجدار الذي نستند عليه. أما الثاني فينظر إليها باعتبارها نهجاً مكتفياً بذاته، لديه اكتمال نظري، وقدرة على تلبية كل ما يتطلبه الواقع من حلول للمشكلات التي تفرض نفسها، آنياً ومستقبلياً. ومن ثم يسعى أصحاب هذا الاتجاه إلى بناء أطر نظرية وعملية تلبي احتياجات الواقع، ويأملون بها أن يرمموا الشروخ الواسعة التي حدثت نتيجة ما يسمونه بالتغريب، أو الابتعاد عن الإسلام. وأنتجت عملية البناء والترميم هذه رؤى عريضة لأسلمة شتى دروب الحياة. فهناك «الاقتصاد الإسلامي» و«القانون الإسلامي»، وهناك «إسلامية المعرفة» ومحاولة لبناء «علم اجتماع إسلامي» و«علم سياسة شرعي» في جوانبه النظرية والإجرائية، و«علاقات دولية إسلامية»، و«فن إسلامي»، ونزولاً من هذه التصورات الكلية والأساسية، هناك محاولة لأسلمة تفاصيل صغيرة جداً في الحياة اليومية للفرد، مثل المأكل والمشرب والملبس وطرق الترفيه ونبرة الكلام والضحك، وما يجري في المناسبات الاجتماعية كافة، وفي مقدمتها حفلات الزفاف والمآتم... إلخ، بل وصل الأمر إلى تحدث بعض السيدات عن «الريجيم الإسلامي». لقد بات من الواضح لكل ذي عين بصيرة وعقل فهيم أن المنطلقات والمعالم الفكرية لتيار التوجه الإسلامي الجديد، تقوم في جزء كبير منها على حرص شديد لا يخطئه الباحث على توكيد حد أقصى من التميز والتفرد للإسلام ونظمه، ينفي عنه مشابهة أي عقيدة أخرى، وأي حضارة أخرى، وأي نظام غيره، عرفه الناس قديماً أو يعرفونه حديثاً. ولكن ما يجب أن يدركه هؤلاء، إن كانوا يرومون ما هو في مصلحة الإسلام كدين عظيم، أنه إذا كان الحرص على تقرير التميز أمراً مشروعاً تماماً لمنع ذوبان الذات الحضارية في غيرها، فإن الإسراف الشديد في تقرير هذا التميز، وتلك الخصوصية، والإحساس بالضيق والرغبة الملحة في الإنكار والرفض تجاه أي دعوى لتقرير المشابهة أو الاشتراك في الرؤية النظرية، والموقف العملي من الآخرين، يحتاج إلى مراجعة واستدراك من وجهة نظر تاريخية واجتماعية، ووجهة نظر إسلامية خالصة. إن البعض يضيق من «الخصوصية» إلى درجة تجعل منها قفصاً حديدياً يحيط بالفرد من كل جانب، ويكاد يخنقه، أو نوعاً من «الوسواس القهري» الذي يطارد الإنسان في صحوه ومنامه، ويجعله يشعر بالذنب الدائم، والتقصير المستمر. ومثل هؤلاء يختلط لديهم العقدي الثابت بالاجتماعي المتغير، ويحمّلون الدين أحياناً فوق طاقته، أو أكثر مما يطلبه الدين نفسه، في قيمه العامة التي تحض على الفضيلة، وتنهى عن الرذيلة. والمطلوب هو أن تكون الخصوصية سلاحاً حقيقياً في وجه تجبر العولمة، وشعورها الزائف بالقدرة على صهر البشرية جمعاء في بوتقة واحدة، أو تحويل الناس إلى أنماط متشابهة، بل متماثلة، تفكر بطريقة واحدة، وتعتنق ثقافة واحدة، وتعيش بأسلوب واحد. وهذا السلاح لا يقوم بجلد الذات، وإغلاق الباب أمام كل ما يرد من «الآخر»، بل يقوم على هضم كل ما لدى الآخرين من إمكانات، وتطويعها لخدمة المصلحة العامة للمسلمين، وهذا ما كان يجري في الأيام الزاهرة للحضارة الإسلامية.