«مفارقة العولمة» عنوان كتاب عالم الاقتصاد التركي «داني رودريك»، يصور ورطة العولمة لدول الغرب التي أطلقتها. سبب ذلك «الثلاثية» التي تجعل من «المستحيل السعي في آن واحد نحو الديمقراطية، وتقرير المصير الوطني، والعولمة الاقتصادية». ويا حكومات العالم اتحدوا، فالثلاثية التي أنجبت «البريسترويكا» تواصل عملها في تغيير أوضاع موسكو، وتهزّ واشنطن على نحو يستحيل التنبؤ بمجراه، وتزعزع أكثر أنظمة الحكم استقراراً في أوروبا. وتطيح «الثلاثية» بالفكر الليبرالي الغربي أسير الحرب الباردة، الذي اعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي هزيمةً أبديةً. ولأنه فكرٌ ذو بعد واحد، لم ير حتى في عقر داره تجربة الأمة الألمانية، التي خرجت منتصرةً على مَن هزمها في حربين عالميتين، وشطرها جزأين. والسيرة السياسية للزعيم الروسي بوتين خلال ثلاث فترات رئاسية، منذ عام 2000، فرصة فريدة لرؤية ثلاثية الديمقراطية، والوطنية، والعولمة.. «على الطبيعة». وهذا هو مغزى ومبنى كتاب «بوتين ضد بوتين» للفيلسوف الروسي «ألكساندر دوغين»، وفيه يعرض معطيات «مركز دراسة الرأي العام الروسي» التالية: 71% من الروس يعتقدون أن بلدهم يمثل حضارة أوروآسيوية وأرثوذكسية متميزة، ويرفضون الاتجاه نحو الغرب، فيما يرى 13% فقط أن بلدهم جزء من الحضارة الغربية. وتتأرجح قرارات «بوتين» البراغماتية وفق هذه الأرقام، بين القيام في فترة منتصف رئاسته بإصلاحات تستميل الليبرالية الغربية، والعودة إلى «الوطنية الروسية» مع اقتراب موعد الانتخابات. وفي «ثلاثية» واشنطن نفهم قول الفيلسوف «ماركس» أن «العقل كان موجوداً دائماً لكن ليس دائماً بشكل معقول». والمعقول في لا معقول «ترامب» توضحه معطيات الاقتصاد والتكنولوجيا. «المزيد من الثراء والمزيد من الوظائف، لكن ليس لكل شخص»، مقال الباحث الاقتصادي الأميركي «بيتر غودمان»، وفيه شخّص، قبيل انتخاب ترامب، الانتفاضة العالمية ضد التجارة العالمية، والتي فشل الاقتصاديون في التنبؤ بها، وفشلت الحكومات في درئها. «ملايين العمال خسروا مداخيلهم التي حصدها المنافسون الأجانب، وأطلق ذلك غليان غضب اجتاح بلدان الاتحاد الأوروبي، وأدى إلى خروج بريطانيا منه، وعصف باتفاقات التجارة الدولية». ومرسوم «ترامب» في أول أسبوع من رئاسته الخروج من «اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ» كان بمثابة عزف اللحن الجنائزي لها. فالانتفاضة ضد التجارة العالمية اندلعت عندما استنفدت سنواتُ الهَوَس بالاستثمارات والمضاربات المالية طاقتها الكامنة، التي غذّت أسواق العمل، وعرّت التجارة التي كانت مغطاة بالرفاه الموهوم. ويستحيل عكس هذه الموجة العامة من العداء، «وذلك لأن العصف التكنولوجي والثورة الاقتصادية تحدث في عصر الشحة الاستثمارية»، حسب «غودمان» في كتابه «حلول يوم الحساب»، والذي يكشف فيه «نهاية النقود السهلة وتعذر تجديد الاقتصاد الأميركي». ولم يخطر ببالي «عصف التكنولوجيا» عندما غطّيتُ قبل ربع قرن أكبر معارض الكومبيوتر العالمية «كومدكس» في «لاس فيغاس» بالولايات المتحدة. ولم أتصور آنذاك «أسماك القرش» التكنولوجية الحالية، وبعضها ظهر من العدم، «أمازون»، و«آبل»، و«فيسبوك»، و«مايكروسوفت»، و«غوغول».. وجميعها اليوم تجس بيدها مقود العولمة. ولا أتوقع أن تقتصر ردود فعل الحكومات على ملاحقتها في قضايا ضرائبية، كما في أوروبا، أو احتوائها ومحاولة مضاهاتها، كما في الصين، أو مطالبة «ترامب» بإعادة أعمالها إلى الولايات المتحدة، بل الهدف وقف تمدداتها الخارجة عن سيطرة الحكومات. فهذه الشركات الخمس «عمالقة التكنولوجيا تبدو وكأنها لا تُقهر، وهذا يقلق المشرعين»، حسب الكاتب الأميركي المختص بالتكنولوجيا «فرهاد مانجو». فهي خمس من أكبر عشر شركات في العالم، بقيمتها في أسواق الأسهم، ولا تستطيع التوقف عن النمو خارج مجالها. وها هي تطور تكنولوجيات تغزو صناعات السيارات، والصحة العامة، وتجارة البيع، والنقل، والترفيه، والمالية.