قد يُثير السؤال أعلاه الكثير من الشجون لدى فئة من المثقفين في العالم العربي، والذين يشعر بعضهم بالتهميش والإقصاء، بل بالتضييق على معيشتهم، وتنغيص حياة هذا البعض كي ينزوي ويترك مشروعه الثقافي، ويظل في الهامش تأكله الحسرات ودون أن يلتفت إليه أحد. كما قد يُثير ذات السؤال آخرون ممن يشعرون بأن المثقفين يلقون الرعاية والاهتمام من سلطة بلدهم، ولهم مكانتهم، فهم الفئة المسؤولة عن الثقافة. وبالطبع فإن مثل ذلك التهميش لا يحدث في العالم المتحضر، فالمثقفون هناك هم مَن قادوا مجتمعاتهم نحو الحياة المتحضرة، واستطاعوا «مقارعة» الأوضاع الظالمة والمتخلفة، وساهموا في بسط حياة الكرامة الإنسانية عبر إبداعاتهم المتنوعة. ونحن في العالم العربي نعيش أزمات عديدة؛ سياسية وأمنية وعسكرية وإدارية.. والسلطة هي التي تتقارب مع بعض المثقفين، وهي التي تختار النموذج الذي تراه صالحاً للمرحلة. هناك نوعان من المثقفين في العالم العربي: نوع يعيش في كنف السلطة، يدافع عن توجهاتها وسياساتها، وهو الذي نجدهُ يهمس خلف الكواليس المغلقة، ونادراً ما يشارك في الإعلام أو الصحافة، وقد يكون له حضور موسمي يتلاءم مع دوره في الثقافة الرسمية. ونوع يكون خارج «جنة السلطة»، وهو الذي لا تقتني الإدارات كتبه أو رسوماته، ولا تذيع أغانيه أو أفلامه أو مسلسلاته، ولا تسمح له لجان الرقابة بعرض مسرحياته. هذا المثقف نجده يحاول الطيران بلا جناحين.. فحتى المؤسسات الخيرية (أو مؤسسات النفع العام) لا تلتفت إليه ولا إلى إبداعاته، بل تتطير منه، لاعتقادها بأنه «غير مرغوب فيه» أو أنه شخص «إشكالي»، قد يُسبب لها المتاعب! وهذا النوع نادراً ما تتم دعوته إلى المحافل «الثقافية»، فرؤيته أو مشروعه الثقافي أو الفني مختلف عما يتم الترويج له من مشاريع ثقافية. قد تبدو هذه الرؤية سوداوية، وقد يراها البعض غير واقعية، لأن هنالك ظروفاً تُخلق وتوجد لبعض «أهل الثقافة» تُمكّنهم من الاستفادة من تلك الظروف، وبالتالي يتعين مدح ذاك الواقع، وعدم النظر إليه بمنظار أسود! لكني هنا أتحدث عن الغالبية العظمى من المثقفين العرب في أغلب البلدان العربية، أي المثقف الذي لا يمتلك المال لطباعة رواية أو لإخراج مسرحية. فإذا كان العوز للمال حاضراً، إلى جانب التهميش والإقصاء، فإن المثقف لن يستطيع إثبات نفسه، أو التواصل مع جمهوره، خصوصاً إن انزوى في حلقته الذاتية أو أُغلقت دونه الأبواب. وفي كثير من الدول العربية يتسيّد المشهد الثقافي بعض صغار الكتبة، أو الذين يجترّون ويشْترون أعمال الآخرين، دون أن تكون لهم القدرة أو المؤهلات لصياغة النوع الثقافي الذي يمثلونه. المثقف الحقيقي لا يطرق الأبواب، ولا يستجدي الآخرين، حتى في أقسى حالات انتهاك حقوقه، يمكن أن يهمس لصديق، أو أن يطالب بحقه القانوني، لكنه دائماً ينأى بنفسه عن ذل الاستجداء. إن حالات التنميط والشخصنة التي يفرضها بعض مُنفّذي المشاريع الثقافية يجب أن تتوقف، وأن تكون هنالك موضوعية في دعوة المثقفين حسب اختصاصاتهم، ومشاركتهم في الفعاليات الثقافية، دونما توجس منهم أو «معاقبتهم» على نص اعتبرته الرقابة اقتراباً من الخطوط الحمراء! ولا نتوقع أن تتم دعوة صاحب مجموعة قصصية يكتب لأول مرة، لإلقاء محاضرة عن تاريخ القصة القصيرة؛ فالخبرة والسن مطلوبان في هذه المسألة. كما لا يجوز أن يتم اقتناء نسخ من كتاب أحدهم، بينما يتم رفض اقتناء نسخ لكاتب آخر قد يكون أفضل في عمله من الأول، وهذا ما عنيناه بحالات التنميط والشخصنة. نحتاج إلى واقعية في التعامل مع قضايانا الثقافية، وأن يُنظر إلى جميع المبدعين بمنظار إيجابي، دونما تمييز أو إقصاء أو محسوبية.