ما فتئ الرئيس دونالد ترامب يشدد على أن الاقتصاد الأميركي في وضع كارثي وأنه وحده قادر على معالجته. بيد أن حال الاقتصاد الأميركي أفضل مما يعتقد معظم الأميركيين، ومحاولات البعض تصليح ما ليس معطلاً هي واحدة من أكبر التهديدات التي تواجهه في الواقع. والخطر لا يكمن فقط في أن الرئيس فضفاض أو مخطئ بخصوص الحقائق، وإنما في أن الحقائق السيئة تؤدي إلى السياسات السيئة. فمنذ الربع الثاني من 2009، توسع الاقتصاد الأميركي بشكل مستمر لقرابة ثماني سنوات، وهو رقم قياسي يُعتبر أفضل من ست من حالات التوسع الاقتصادي العشرة التي حدثت منذ عقد الخمسينيات. وبالمقابل، فإن التعافي الاقتصادي السابق، الذي بدأ في أعقاب هجمات 2001 الإرهابية، دام ست سنوات فقط. وقريباً، سيتجاوز توسع «أوباما-ترامب» توسع «ريجن- بوش» خلال عقد الثمانينيات، ما سيجعله ثالث أطول فترة خلال مرحلة ما بعد الحرب. ترامب قال مشتكياً في مؤتمره الصحفي يوم الخميس: «إن الوظائف ترحّل بشكل جماعي من البلاد». والحال أن هذا التعافي الاقتصادي خلق أكثر من 15 مليون وظيفة، ما خفض معدل البطالة من 10 في المئة إلى 4.8 في المئة، وهو ما يعتبر دون متوسط معدل البطالة 5.8 في المئة، مثلما لفتت إلى ذلك «مجموعة جولدمان ساكس» في تقرير رصين في يناير الماضي. والواقع أن حتى إضافة «العاطلين جزئياً» – أي العاملين بدوام جزئي وأولئك الذين توقفوا عن البحث عن وظائف – لا تغير هذه النتيجة، حيث انخفض هذا المعيار الواسع لقياس البطالة من 17.1 في المئة إلى 9.4 في المئة، أي دون متوسط 10.6 في المئة. ومع وصول الاقتصاد إلى مستوى التشغيل الكامل تقريباً، شعر العمال الأميركيون بالفرق، حيث يشير بنك «الاحتياطي الفيدرالي» في أطلنطا إلى أن نمو الأجور ارتفع إلى نحو 3.5 في المئة سنوياً، مقارنة مع أقل من 2 في المئة مطلع العقد. كما يفيد «مكتب الإحصاء» بأن متوسط دخل الأسر ارتفع في 2015 بأسرع معدل على الإطلاق. هذا في حين انخفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر بـ8 في المئة. صحيح أن استقرار التعافي الاقتصادي لم تواكبه سرعة في التعافي. ذلك أن النمو منذ 2009 كان أبطأ من أي تعاف اقتصادي خلال فترة ما بعد الحرب. ولكن ذلك ليس سيئاً مثلما قد يبدو، ثم إن محاولات دفع معدل النمو إلى الأعلى يمكن أن تؤدي بسرعة إلى مشاكل أسوأ. والواقع أن السبب الأول للنمو البطيء أمر مرحب به. ففي بعض حالات التعافي السابقة، كان النمو أسرع لأنه كان يفوق المعدل القابل للاستمرار – وكان هذا يتسبب إما في التضخم، ما يرغم «الاحتياطي الفيدرالي» على رفع معدلات الفائدة والتسبب في ركود، أو في فقاعة تنفجر على نحو مدمر. وبالمقابل، فإن التعافي الحالي لا يبدي مؤشرات على الضعف. ولكن على إدارة ترامب أن تنتبه إلى أن المشكلة الوحيدة التي تلوح في الأفق هي أن التحفيز المزدوج، المتمثل في خفض الضرائب والإنفاق على البنى التحتية، يمكن أن يدفع النمو إلى مستوى أعلى من المعدل القابل للاستمرار – وأن «الاحتياطي الفيدرالي»، الذي يقوده أشخاص جدد معينون من قبل ترامب، قد لا يقوم بالضغط على المكابح بشكل سريع بما يكفي. أما السبب الثاني للنمو البطيء، فهو أن فترات التعافي الاقتصادي بعد الأزمات المالية تحتاج لأن تكون تدريجية. فالأمر يتطلب وقتاً لتسديد كل تلك الديون السيئة التي تراكمت خلال فترة الاقتراض الجنوني. والخبر السار هو أن الأسر الأميركية قامت بالتوفير بشكل كبير، وهو ما يساعد على تفسير الاستهلاك المنخفض والنمو البطيء نسبياً، ولكنه إيجابي للمستقبل. وعلى سبيل المقارنة، فبعد سبع سنوات من التعافي خلال فترة ما بعد الحرب، كانت الأسر الأميركية قد رفعت ديونها بـ4.8 نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، حسب «مجموعة جولدمان ساكس». أما اليوم، وبعد سبع سنوات على بدء التعافي، فقد قلصت ديونها بـ18.4 نقطة مئوية. وبهذا يمكن القول إن الوتيرة المتواضعة للتعافي كانت صحية في الواقع. وخلاصة القول، إن لدى الولايات المتحدة قائمة طويلة من التحديات الاقتصادية من قبيل: التفاوت من حيث الفرص، وتراجع مشاركة الذكور في القوة العاملة، وهيمنة أقلية غنية على بعض القطاعات. غير أنه لا توجد أي أزمة اقتصادية عامة لتبرير هجوم راديكالي على الوضع الراهن. ولذلك، فإن كبح الهجرة لن يؤدي إلى خفض البطالة، التي تُعتبر منخفضة على أي حال، ولكنه سيضر بالنمو. كما أن هجوماً على شركاء الولايات المتحدة التجاريين لن يقلّص العجز التجاري، المرتبط إلى حد كبير بوضع الدولار كعملة احتياطية، ولكنه سيتسبب في اضطراب سلاسل الإمداد، ما سيلحق ضرراً أكبر بالنمو. وعليه، فإذا كان يرغب ترامب حقاً في جعل أميركا عظيمة إلى أقصى حد ممكن، فعليه أن يدرك أولاً أنها عظيمة أصلاً في الواقع. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»