لا يمكن أن تكون الدول قوية إلا بتماسك مجتمعاتها، وتفاهم المجتمع والدولة وعقدها الاجتماعي، بمعنى أن الوصاية الخارجية لا تسمن ولا تغني من جوع، وأن معادلة عيش الدولة بين سندان الخارج ومطرقة المجتمعات معادلة سلبية، فالاستقواء يكون بالمجتمعات، والدول تكون قوية لا بأسلحتها ولا بتحالفاتها الخارجية الأمنية فقط، وإنما بمجتمعاتها أيضاً، فالتاريخ يسجل لنا أن العديد من الدول تنازلت عن واجباتها الداخلية مقابل بعض من الحمايات الخارجية، وهذه الحماية الخارجية هي بدورها في حاجة إلى حماية، فالأزمة الاجتماعية عندما اندلعت في تونس لم تستطع الحليفة التقليدية فرنسا مجاراة النظام ولا التعامل بمحددات الدبلوماسية الخارجية التي طبعت علاقات ذلك البلد منذ استقلاله سنة 1956، بمعنى أن تلك المحددات كانت مؤقتة وسلبية، فالعقد الاجتماعي الصحيح هو الذي يتضمن حقوقاً في ضمان التنمية الاقتصادية والمالية والاستقلال السياسي والنضج الثقافي، ويتضمن أيضاً واجباً على الدولة باعتبار المجتمع شريكاً والمجال السياسي مجالاً عاماً ومفتوحاً للمساءلة والمحاسبة. في سنة 2004 وفي محاضرة أعطاها المفكر اللبناني غسان سلامة في حفل غداء حضره عدد من الوزراء العرب في بيروت قال: «لقد رأينا دولاً تتنازل للخارج عن الكثير في مقابل حماية أنظمتها، وقد شاعت هذه الظاهرة أخيراً، فتعددت الأمثلة وعظمت التنازلات، فهل نبقى على هذا المنوال، أم نفهم أن الخارج يحصل على هذه التنازلات الموجعة دون أن يتمكن من تقديم الضمان الحقيقي لبقاء النظام، وربما دون أن يرغب في ذلك؟ هل بتنا نستهين بالتخلي عن عناصر واسعة من سيادتنا كي لا نعطي شيئاً من المشاركة الحقيقية لمجتمعاتنا؟ هل أن الرضوخ لمطالب الدولة الأعظم.. بات أسهل علينا من تبني الديمقراطية والمشاركة السياسية واحترام حقوق شعوبنا؟ إن هذا (...) يحتاج إلى انقلاب مفهومي عميق، فالثقة بين الدولة والمجتمع التي شهدت في العقود الأخيرة انخفاضاً حاداً بكل المقاييس المتوافرة، تلك الثقة التي لن يتمكن تصحيح ضريبي من النجاح إلا بالاستناد إليها، لا يمكن أن تتعزز إلا إذا شعر كل مواطن بأن دولته قد كفت عن استجداء الدعم الخارجي بهدف استمرار التحكم بمصيره، بل بادرت على العكس إلى الاستقواء بمجتمعها كي تقاوم، معه وبه، مشاريع الهيمنة والوصاية والتدخل». وهذا الكلام، الذي قيل قبل سنوات، ولم يجد آذاناً صاغية، ضيع على العديد من الدول فرصة الوصول إلى بر النجاة عن طريق الاستقواء بالمجتمع والارتكاز معه على دعائم التنمية ومحاربة الفقر والهشاشة بدل تهميشه والاستحواذ عليه داخل مجال عمومي لا يمكن التربص به أو مراقبته على الدوام، وهذا ما وقع في دول انعدمت فيها المواطنة الحقيقية كتونس في العهد السابق ودول أخرى. ولا غرو أن المواطنة هي التي تجمع الكل على صف واحد، وهي الوحدة المرجوة في بناء البلدان والأوطان، فالحديث بلغة طائفية في مجتمعات مركبة من أكبر أبواب الفتنة، والمجاهرون بها هم من دعاة أبواب الجحيم لأن ذلك يشعل البغضاء بين فئات المجتمع الواحد، ويصبح الفكر فكراً عدمياً نرجسياً يمحق الآخر وينفيه ويضع الذات الإنسانية، أي الأنا، محل تقديس وتنزيه، وهو عين الانشقاق والفوضى والفتن ما ظهر منها وما بطن. إن إقرار مبدأ المواطنة هو مصدر الحقوق ومناط الواجبات لكل المواطنين من دون إقصاء لأية أقلية أو حرمانها من امتلاك أدوات ومتطلبات ممارسة حقوق المواطنة وأداء واجباتها، وإقامة دولة المواطنة يعني شعور الفرد بأن حقوقه في المنافع والمكاسب متساوية مع الآخرين، وأن ذلك حق لا منَّة فيه أو عطاء، وينبغي أن يسائل الدولة إذا ما عجزت عن تحقيقها أو تهاونت في ذلك، فمبدأ المواطنة هو المدخل الصحيح لبناء الدول، الذي يضخ المناعة في كل المجتمعات ويحصنها من فيروسات صراع الطوائف المختلفة. وبالإمكان هنا أن نستعرض تاريخ لبنان والسودان والعراق الحديث لنفهم جلياً ما يمكن أن يقع لمجتمعات لم يستحكم فيها مفهوم المواطنة الحقة، فالنظام الطائفي نظام يورث مشاعر قومية وثقافية سياسية طائفية تأتي على الأخضر واليابس والقشرة الحامية للدولة والأمم، ويجعل من الطوائف أجساماً سياسية طائفية بالدرجة الأولى وليس أجساماً اجتماعية، ويجعل دعاتها يسعون إلى الزعامة داخل الدولة لتأمين الحد الأدنى من الخدمات والوظائف لأصحاب طائفتهم.