طالما راود الفلاسفة والمفكرين والعلماء والسياسيين والقادة مفهوم «النموذج» بمعانيه وألفاظه المتعددة، كالقدوة، والأسوة، والمثل الأعلى، والأنموذج ‏Paradigm، ?والمثال، و?النمط ?المثالي، و?البنية، ?والمعيار، ?والمخلص، والبطل ?الشعبي ?وابن ?البلد.. الخ. وتتعدد النماذج في العلم والفكر والسياسة وتتجاوزها إلى الحياة العامة، لا فرق في ذلك بين العلماء والجمهور. ويبدو أن النموذج يقوم بدور المعيار أو المقياس في العلم وفي السلوك، في النظر وفي العمل. فلا يوجد فكر أو سلوك إلا إذا احتاج إلى معيار أو نموذج أو هادي سبيل. كما أنه القدوة أو الأسوة في السلوك. ووظيفة النموذج توحيد الفكر، وتجميع الطاقة، واختصار الوقت من أجل التحول من النظر إلى العمل، ومن الذات إلى العالم، ومن الفكر إلى الوجود. وهو ما سمي اتباع النموذج الإرشادي، والمؤشر والدليل في عالم مملوء بالعلامات. وطالما راود الصوفية مفهوم «الإنسان الكامل» عند ابن عربي وعبدالكريم الجبلي. وهو النموذج الحق للخير العدل. هو نموذج العلم والقدرة والحياة. فالحياة نظر وعمل. والسمع والبصر والكلام والإرادة لأن العلم علم بشيء عن طريق الحواس، وتعبير عن مضمونه بالكلام، وصياغته للحق بعيداً عن الأهواء. وقد لا يعني اتباع القدوة التقليد في كل الأحوال. فالنموذج إلى أعلى أو إلى الأمام وليس إلى الخلف كما هو الحال في الطليعة والطلائع أو النخبة أو الرواد، هؤلاء الذين يجسدون النموذج النظري بالسلوك العملي. ولذلك جعل القدماء من شروط الإفتاء اتفاق عمل المفتي مع قوله وإلا سقط الإفتاء. فالنموذج أول ما يُطبق يُطبق على الذات. ويستعمل النموذج في العلوم الرياضية فيما يسمى بـ«النمذجة» ‏Modeling ?أي ?نظم ?الواقع ?كله ?طبقاً ?لنماذج ?رياضية ?معدة ?سلفاً. ?فالعقل ?والواقع ?من ?نظام ?واحد. ?والنموذج ?الرياضي ?له ?صدقه ?في ?باطنه. ?إذ ?يقوم ?على ?مجموعة ?من ?المصادرات ?أو ?البديهيات ?أو ?الأوليات ?أو ?المبادئ ?الأولى ?الصحيحة ?في ?ذاتها، ?والتي ?تحمل ?برهانها ?في ?داخلها. ?ثم ?يتم ?استنباط ?نسق ?منها ?مقياس ?الصدق ?فيه ?اتفاق ?النتائج ?مع ?المقدمات. و?لذلك ?كانت ?العلوم ?الرياضية ?نموذجاً ?لليقين ?المطلق ?قبل ?الرياضيات ?الحديثة، ?تتخذها ?العلوم ?الطبيعية ?التجريبية ?نموذجاً ?لها. ?وعيب ?ذلك ?هو ?تحويل ?الواقع ?إلى ?أعداد ?وشتان ?ما ?بين ?حركة ?الواقع ?وثبات ?الأعداد. ?الواقع ?مادي ?حي ?متحرك ?وحر ?يغفل ?وجود ?الإرادة ?الإنسانية ?فيه ?ولا ?يمكن ?التنبؤ ?بمساره. ?في ?حين ?أن ?النموذج ?الرياضي ?صوري ?ميت ?ثابت ?وحتمي ?لأنه ?خارج ?الأفعال ?الإنسانية ?الفردية ?والجماعية ?وليس ?به ?مسار ?يمكن ?التنبؤ ?به. ?النموذج ?نظام ?عقلي ?والواقع ?له ?نظامه ?الخاص ?بما ?في ?ذلك ?اللانظام. ?الواقع ?أكثر ?غنى ?من ?النموذج. ?ولذلك ?سرعان ?ما ?تنهار ?النماذج ?حين ?يتجاوزها ?النظام ?وتعجز ?عن ?احتوائه ?والسيطرة ?عليه. ?والنموذج ?في ?هذه ?الحالة ?وسيلة ?عملية ?لتحويل ?الواقع ?إلى ?كم ?يسهل ?التعامل ?معه ?في ?الاقتصاد ?من ?أجل ?الاستيراد ?والتصدير ?بصرف ?النظر ?عن ?التقلبات ?الاجتماعية ?والتغيرات ?السياسية. ?والنموذج ?يتعلق ?بنتاج ?العامل ?وليس ?بالعامل ?نفسه. ويستعمل أيضاً في العلوم الطبيعية التي تقوم على المنهج التجريبي، ونموذجه وضع الفروض من الملاحظات المبدئية ثم تحقيق هذه الفروض في الواقع. فما يتحقق منها يتحول إلى قانون علمي. ومقياس صحة النتائج مطابقتها مع الواقع التجريبي. ويعتمد هذا النموذج بالرغم من طابعه التجريبي على عدة مبادئ لاتجريبية مثل اطراد قوانين الطبيعة، والاكتفاء بالاستقراء الناقص لاستحالة التجريب على كل الجزئيات. وهو ما سماه محمد باقر الصدر «الأسس المنطقية للاستقراء»، وما سماه الشاطبي «الاستقراء المعنوي» في «الموافقات». وقد عبّر عن ذلك «توماس كون» في كتابه الشهير «بنية الثورات العلمية» حيث يتم التقدم في العلوم الطبيعية طبقاً لتوالي النماذج الإرشادية التي لا تتعارض فيما بينها بل تتداخل كدوائر مختلفة الاتساع تشارك في مركز واحد ولكنها تختلف في مدى تطبيقها. فنموذج نيوتن للعلم ينطبق على العلم التقليدي، الأسباب والمسببات. ونموذج أينشتاين لا يتعارض مع نموذج نيوتن إلا في أنه يفسر دائرة أوسع من الظواهر الطبيعية. ويستعمل أيضاً «النموذج» في العلوم الإنسانية، الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وفي العلوم الاجتماعية، الاجتماع والسياسة والاقتصاد. ------------- * أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة