هل لا تزال هناك رَكْبٌ حول العالم لم تجثُ لبعل الكراهية وترفض السجود في محراب العنصرية؟ واقع الحال يؤشر إلى أن العالم شرقاً وغرباً، وكما تعلو فيه صيحات البغض وترتفع رايات الشعبويات والقوميات ضيقة الأفق، يمتلئ كذلك بأصوات ضد الكراهية، تسعى للوئام عوضاً عن الخصام، وتتطلع للاتفاق في مواجهة الافتراق، أصوات تدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه، فالحب دينها وإيمانها كما قال المتصوف الأندلسي الكبير «ابن عربي» ذات مرة. وعليه من المؤسف أن تتعالى أصوات الحقد من قلب الدول الأوروبية ذات العلاقات التاريخية بالعرب والمسلمين مثل إيطاليا التي شهدت عصورها الوسطى تلاقياً مع العالم العربي عبر التجارة وترجمة الآداب وتبادل العلوم والمكتشفات، بل إن صقلية، الجزيرة الإيطالية الشهيرة شهدت حضوراً عربياً فاعلاً طوال قرنين من الزمن، إلا أن بعض اليمينيين هناك مثل الأمين العام لحزب رابطة الشمال «ماتيو سالفيني» يدعو إلى ضرورة اعتبار الإسلام الخطر رقم واحد، ويتهم المسلمين بأنهم «لا يزالون يعيشون فكر قرون مضت»، في إشارة لا تخطئها العين لبعض الأفكار الإرهابية غير السوية. غير أن ما صدر عن بابا الفاتيكان فرانسيس الأول عطفاً على العديد من رجالات الأكليروس الكاثوليك في إيطاليا عينها يبين لنا أن هناك أملا وإشراقا رغم اليأس والغيوم. غداة استقباله لأعضاء اللجنة الوطنية لمكافحة المافيا والإرهاب بقيادة المدعي العام «فرانكو روبرتي» في القصر الرسولي مقر حكم بابا روما التاريخي، قال البابا فرانسيس إن «من فر من بلاده بسبب الحرب والعنف والاضطهاد، يحق له تلقي ضيافة وحماية مناسبتين في البلدان التي تطلق على نفسها اسم متمدنة». تصريحات رأس الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حول العالم كانت ولاشك دافعاً إيجابياً محفزاً لأساقفة إيطاليا للدعوة لمنح المواطنة لأبناء المهاجرين بعد إتمامهم الدراسة الابتدائية، ومنح القصر غير المصحوبين بذويهم حضانة في مأوى خاص. يحدثنا الكاردينال «أنجلو بانياسكو» رئيس مجلس الأساقفة الإيطاليين بأن «الكنيسة» بدءا من رعايانا، ومراكز منظمتي ميغرانتيس وكارتياس تقف عند الخطوط الأولى في مجال استقبال المهاجرين.. وأن كلمة استقبال لا تعني الخدمات فقط بل الأسرة والمجتمع والحوار بين الثقافات ومبادرات الاندماج. يلفت الانتباه وبقوة في الحالة الأوروبية بنوع خاص أن هناك أصواتا تحريضية ملؤها الشر توجه للأوروبيين من خارج قارتهم.. هل أتاك حديث «دانيال بايبس» اليميني العنصري الأميركي صاحب «منتدى الشرق الأوسط» وحديثه عن ما يسميه «العنف الإسلاموي الذي سيوجه مصير أوروبا»؟ يثير «بايبس» وأقرانه مخاوف الأوروبيين بعمق عندما يخاطبهم بشأن تدفق الشعوب المسلمة غير المدمجة، وكيف أن حضارة أوروبا يمكن أن تذوب، وربما تصبح إنجلترا «لندستان»، وفرنسا جمهورية إسلامية عما قريب. غير أنه ومن حسن الطالع نشاهد رؤى تصالحية أوروبية في زمن اليمين المتشدد، رؤى تنافي وتجافي جذور الإثم والعدوانية التي زرعها «برنادر لويس»، منذ ستينيات القرن المنصرم، وأحياها «صموئيل هنتنجتون» في دعوته لـ «صدام الحضارات»، وسار في طريقهما «فرانسيس فوكاياما» بأقواله عن نهاية التاريخ، قبل أن يعيد تقييم أوراقه الفكرية. في أوروبا اليوم نجد الأب «برونو كادورية» الرئيس العام للرهيبة الدومنيكانية، إحدى أهم الرهبانيات الكاثوليكية حول العالم، يعلن فتح الأديرة الفارغة وتخصيصها لمواجهة احتياجات اللاجئين، الذين باتوا يمثلون «بؤساء» القرن الحادي والعشرين، ولو أمتد العمر بأديب فرنسا الكبير «فيكتور هوجو» لكتب الجزء الثاني من روايته الخالدة عنهم. أسقف إيطالي آخر يحتل مكانة بارزة في السلم الكنسي المونسينور «نونتسيو فالانتينو» الأمين العام لمجلس الأساقفة الإيطاليين يرفض ويشجب فكرة «إعادة فتح مراكز تحديد الهوية والطرد للمهاجرين إن كانت ستبقي أماكن للتوقيف»، بمعنى رفض الاختصام من الكرامة الإنسانية للمعذبين في الأرض من أبناء الشرق الذين ألقت بهم الأمواج على السواحل الأوروبية. أما مدير مركز «أستاللي» لخدمات المهاجرين في روما، والذي ينتمي بدوره إلى الرهبنة اليسوعية الكاثوليكية الشهيرة، فيرفض أن تبقى أوروبا التنوير والعلمانية والإنسانية ساكنة صامتة أمام أوضاع الأبرياء الذين يموتون في البحر كل يوم، ويضيف:«لن نكف عن المطالبة بتحقيق العدالة للمهاجرين وإعطاء صوت للاجئين». قمة الرؤية اللاهوتية لأصوات المحبة الرافضة لكراهية الآخر مثلها البابا فرانسيس حينما خاطب مؤخراً المهاجرين واللاجئين من المهانين والمجروحين في كرامتهم وإنسانيتهم بقوله:«أسألكم نيابة عن المجتمع بأسره أن تغفروا الانغلاق واللامبالاة من جانب مجتمعنا، الذي يخشى التغيير في الحياة الذي يتطلبه وجودكم». يرى «فرانسيس الأول» أن المهاجرين يعاملون كعبء أو مشكلة أو تكلفة «من قبل الأوروبيين»، لكنه يراهم حسب قوله «أنتم هبة وشهادة بأن الله الرؤوف الرحيم يمكنه تحويل الشر والظلم الذي تعانونه إلى خير للجميع». يدعو البابا المهاجرين لأن يكون كل واحد منهم جسراً يجمع شعوباً بعيدة، مما يتيح إمكانية اللقاء بين ثقافات وديانات مختلفة، ويختتم بالقول «إنكم سبيل لإعادة اكتشاف إنسانيتنا المشتركة». في لقائه مع المؤمنين نهار الأربعاء 8 فبراير تجاوز البابا حدود أوروبا، إلى ميانمار، حيث رفض وبقوة الانتهاكات الوحشية التي تجرى لمسلمي الروهينجا هناك، واصفاً إياهم بأنهم أشقاء وشقيقات لنا.. كانت المحبة الصافية تتكلم والكراهية تتوارى بعيداً جداً. ماذا عن الأصوات الأميركية المقابلة في رفضها للأحادية الذهنية والفوقية الامبراطورية الأميركية، ونبرة أميركا أولاً، وربما قريباً «فوق الجميع»؟ إميل أمين* * كاتب مصري