العام الماضي، كانت المؤسسة الأمنية العالمية قلقةً بعض الشيء بشأن ميل الولايات المتحدة المتزايد إلى تقليص تدخلاتها في الخارج، وهذا العام، حل محل هذا القلق إدراك أن «النظام العالمي الليبرالي» – وهو كلمة أخرى لـ«باكس أميركانا»، أو عصر القوة الأميركية – قد يكون انتهى، وأن ثمة حاجة الآن لترتيبات أمنية جديدة. هذه باختصار هي الخلاصة التي يمكن استخلاصها من نسخة هذا العام من «تقرير ميونيخ الأمني»، الوثيقة التي يصدرها سنوياً منظمو «مؤتمر ميونيخ الأمني»، الذي يُعتبر أهم تجمع جيوسياسي في العالم. المؤتمر سيفتتح في 17 فبراير، ومن المتوقع أن تحضره شخصيات رفيعة مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ونائب الرئيس الأميركي مايك بانس، وربما لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، سيحاول المشاركون رسم استراتيجية في عالم بات فيه من الصعب للغاية استشراف المستقبل. في 2016، كان تقرير ميونيخ الأمني قد لفت بشكل مقتضب إلى أن غياب الولايات المتحدة عن المحادثات حول النزاع في شرق أوكرانيا شيءٌ ما كان ليتخيله أحد من قبل، وإلى أن الولايات المتحدة لا يبدو أنها مهتمة كثيراً بحل الأزمة السورية وفق شروطها. وفي 2017، يمكن القول إن كل شيء وارد بخصوص ما قد تفعله الولايات المتحدة في نهاية المطاف، وذلك على اعتبار أن دونالد ترامب وأعضاء فريقه أدلوا بالكثير من التصريحات المتضاربة والمتعارضة حول السياسة الخارجية لدرجة أن لا شيء يبدو واضحاً بشأن نواياهم المستقبلية في وقت يسعون فيه إلى ترجمة شعار «أميركا أولاً» إلى واقع. بيد أن انعدام فعالية الولايات المتحدة كركن من أركان الأمن لا يعود فقط إلى عدم القدرة على التنبؤ بسياسات ترامب، ولكن أيضاً إلى حقيقة أنها لم تعد قادرة على تأكيد قوتها في بعض من أهم الأزمات العالمية، ذلك أن الولايات المتحدة لا تشعر فقط بأنها مرغمة على تجنب مواجهة مباشرة مع روسيا، مثلما فعلت في أوكرانيا وسوريا – بل يبدو أيضاً أنها بلغت حدود نفوذها في حالة كوريا الشمالية. وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى أنه «إذا قامت الولايات المتحدة بإضافة عقوبات (ومن ذلك عقوبات تؤذي البنوك الصينية)، أو مارست ضغطاً على الصين حتى تزيد من إجراءاتها ضد كوريا الشمالية، أو حتى اختارت الإقدام على خطوات عسكرية، فإن أزمة أميركية- صينية كبيرة قد تصبح وشيكة». بعبارة أخرى: فإن العقوبات الاقتصادية، التي تُعتبر السلاح الأسهل الذي يمكن للولايات المتحدة استخدامه، يمكن أن تؤدي إلى تصعيد عسكري يبدو أن الولايات المتحدة غير مستعدة له ولا تريده. ويبدو أن «المجتمع الاستراتيجي»، مثلما يصف منظمو مؤتمر ميونيخ الحاضرون، قد بدأ ينظر إلى القوة الأميركية على أنها «محاولة إيهام بالقوة غير قابلة للاستمرار»، فهي موجودة من دون شك، إلا أنه لا يمكن استعمالها في الواقع. وبالتوازي مع ذلك، بدأت بعض الأوساط تناقش إمكانية تحول الاتحاد الأوروبي لقوة عظمى جديدة. والواقع أن المؤشرات على ازدياد الوعد الأوروبي بأن الاعتماد على الولايات المتحدة في الدفاع لم يعد ممكناً يمكن رصدها في الإنفاق المتزايد على الدفاع – وإنْ كانت الولايات المتحدة ما زالت تنفق على الدفاع أكثر من الاتحاد الأوروبي كله بواقع أربعة لواحد، كما أن نحو ثلث الألمان والفرنسيين يرغبون في رؤية بلدانهم تنفق أكثر على الدفاع. ومن جانبها، تؤيد بولندا وبلدان أخرى من أوروبا الشرقية زيادة الإنفاق العسكري. غير أن المال وحده لن يكون كافياً لتقريب أوروبا من اكتفاء ذاتي عسكري، إذ تحتاج هذه الأخيرة إلى الانتقال نحو مزيد من الاندماج والتكامل العسكري، ما يعني تحسين مشتريات الدفاع وتنسيقها، ذلك أن الجيوش الأوروبية تستعمل الكثير من أنظمة الأسلحة المختلفة: سبع عشرة عائلة رئيسة من الدبابات مقارنة مع واحدة فقط بالنسبة للولايات المتحدة، و20 نوعاً من الطائرات المقاتلة مقارنة مع ستة أنواع فقط، و13 نوعاً من الصواريخ جو- جو مقارنة مع ثلاثة، فهذه الفوضى من الصعب معالجتها لأن إعادة التسلح باهظة، كما أن السياسيين الأوروبيين لا يمكنهم السماح باختفاء صناعة الأسلحة في بلدانهم. وعلاوة على ذلك، فإن التعاون العسكري خارج إطار حلف الناتو صعب ولم يجرب من قبل. ومن دون لاعب مهيمن مثل الولايات المتحدة، فإن ذلك يمكن أن يكون أمراً مثيراً للخلافات، وخاصة بالنظر إلى تاريخ الدول الأوروبية الطويل، وغير المنسي تماماً، من المواجهة العسكرية. لكل هذه الأسباب، فإن طريق أوروبا نحو وضع القوة العظمى يبدو طويلاً وشائكاً اليوم، غير أن مجرد حقيقة أن منظمي مؤتمر ميونيخ يعتبرونه جديراً بالاهتمام ويستحق المناقشة يُظهر أنه لم يكن غير واقعي أيضاً. وربما لن يكون لدى أوروبا خيار آخر إذا واصلت الهيمنة الأميركية في العالم التراجع والتآكل. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»