«أحياناً قد تكون أفضل استثماراتك تلك التي لم تقم بها». تُلخصُ عبارة «ترامب» هذه صفقته مع روسيا، التي انتظرت ظهوره سنوات قبل انتخابه رئيساً للولايات المتحدة. «فمن بين جميع القوى السياسية في الولايات المتحدة لا نؤيد سوى الانعزاليين الجمهوريين لأنهم يدعون إلى التوقف عن دعم (الغلوبالية)، والتركيز على المشاكل الداخلية، وتَرك باقي العالم في سلام». كتب ذلك الفيلسوف الروسي «ألكساندر دوغين» في كتابه «بوتين ضد بوتين» الصادر عام 2014، ويصلح دليلاً لمعرفة «البريسترويكا» التي تعني بالروسية «إعادة البناء». وكما في موسكو تعصف «البريسترويكا» بجميع مفاصل واشنطن، من قمة «مجلس الأمن القومي» وحتى أدناه، وتخترق القواعد المرعية عندما تتيح لأشخاص غير عسكريين، مثل «بانون»، المستشار الاستراتيجي للبيت الأبيض، دوراً أمنياً متاحاً عادة للجنرالات فقط، أو تولي منصب «وزير الخارجية» لرئيس شركة صناعة النفط العملاقة «إكسون موبايل» سابقاً «ريكس تيليرسون» الحائز على «وسام الصداقة» من «بوتين». وكما في «بريسترويكا» الزعيم الروسي الراحل «يلتسين»، يلعب أفراد من عائلة «ترامب» أدواراً في السياسة و«البيزنس». وغالباً ما تحجب الشخصيات التاريخية المثيرة رؤية التاريخ المثير الذي أنجبها. تصريحات «يلتسين» العشوائية، وتهريجه، وسكره، شوّشت رؤية «البريسترويكا» التي غيَّرَت إلى الأبد الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي برمته. وتشوِّش تصريحات وتصرفات «ترامب» رؤية «بريسترويكا أميركية» قد تغير ليس الولايات المتحدة وحدها، بل العالم أجمع. والحملة الشرسة ضده متشابكة مع مثيلتها ضد «بوتين»، وتستعير كلتاهما لهجة الازدراء والتحقير من المطبخ الإعلامي للحرب الباردة، وتنتقي إمبراطوريات الإعلام الغربية لقطات يبدو فيها كلا الزعيمين، الأميركي والروسي، مثيرين للضحك، أو مريبين كرؤساء المافيا. لكن التاريخ لا يطرق الباب ولا يستأذن، بل يقتحم واشنطن كاقتحام «البريسترويكا» موسكو، وفي كليهما يمكن تمييز أشدّ عدوين للتغيير، وهما أولاً الليبرالية، وثانياً الصهيونية. الليبرالية تصبح معكوسها فتفرض قيوداً وتحريمات على كل ما ليس ليبرالياً. وعندما أتابع التقارير والآراء بالعربية والإنجليزية والروسية، يُدهشني سخف وغباء «اللوبي الصهيوني»، وفيه فائزون بجوائز «نوبل». ومن سوء حظ هذا اللوبي، سيئ الحظ تاريخياً، أن يصطدم برئيس أميركي يحب الشجار، وغير ليبرالي بالفطرة، ويُعلنُ: «نحتاج أحياناً إلى نزاع لأجل التوصل إلى حل. فعبر الضعف لا يمكن غالباً بلوغ الحل الصائب، لذلك فأنا عدائي». وكيف تنازع رئيساً أميركياً أبوه مليونير ألماني وأمه اسكتلندية، وزوجته الحالية (الثالثة) ولدت في سلوفينيا اليوغسلافية، حيث كان أبوها عضواً في الحزب الشيوعي. وكوّن «ترامب» ملياراته من بناء ملاعب «غولف» حول العالم، وعمارات في نيويورك التي يقول عنها العالم الأميركي «نعوم تشومسكي»: «لماذا يريد اليهود فلسطين، وعندهم نيويورك؟!». وتراجُعُ «ترامب» الأسبوع الماضي عن الدعم المطلق لإسرائيل، وتحذيره نتنياهو من «أن بناء المستوطنات ليس في صالح السلام»، أعادَ التذكير بمخاطبته اجتماع «التحالف اليهودي للمتبرعين» في الحزب الجمهوري قبل الانتخابات، وقوله: «أنا أعرف لماذا لن تدعموني؟ لأنني لا أحتاج إلى أموالكم». ذكر ذلك مقال «أيها اليهود حذار من ترامب»، وكاتبه «الفيلسوف برنارد هنري ليفي»، حسب «نيويورك تايمز» مؤلف كتاب «عبقرية اليهود». وتبلغ فلسفة «ليفي» المشهور بدعم المعارضة السورية في باريس، حدّ رؤية سوء النية في إجراءات «ترامب» المحابية لليهود، كتعيين شخصٍ موالٍ لإسرائيل سفيراً في «تل أبيب»، وإعلان عزمه نقل سفارة واشنطن إلى القدس، واختيار مستشار له حول النزاع الفلسطيني الإسرائيلي زوج ابنته «جيرد كوشنر»، وهو من عائلة يهودية متدينة. ويحاكمُ «الفيلسوفُ العبقريُ» الرئيسَ الأميركي باسم «القانون الذي يتحكم بعلاقة اليهود وباقي العالم، لأنه لا يُظهرُ ما يكفي من الحب للشعب اليهودي»!