جاء في الأخبار أن مملكة النرويج قررت إهداءَ جارتها فنلندا جبلاً كاملاً من أراضيها بمناسبة ذكرى تأسيس الأخيرة. وذكر موقع «إندبندنت» الإلكتروني أن العالِم الجيوفيزيائي «بيورن هارسون» أشار إلى أن تلك المبادرة «هدية من قلب النرويجيين إلى فنلندا، ونحن لا نتوقع أي شيء في المقابل، نريد فقط أن نقدّم لهم شيئاً لطيفاً في عيد تأسيس دولتهم». جالت في فكري عدةُ صور وأنا أقرأ الخبر، وأشاهدُ صورة الجبل الذي تكسوه الثلوج في منظر بهيّ، وكيف أن هنالك شعوباً ودولاً تفكر بهذه الطريقة النبيلة، وتتصرف بمحبة تجاه جيرانها. ورجعتُ إلى عالمنا العربي، وكيف تتقاتل بعضُ دوله على نصف متر من الأرض، أو على بئر نفط أو خزان ماء. وكيف تسود الكراهية والبغضاء بين الجيران، حيث يتم تأجيجُ المشاعر، بل تُشن الحروب أحياناً. والغريب أن النزاعات السياسية تستمر لأحقاب طويلة، وتفشل كل المساعي الإقليمية والدولية في إنهائها، رغم كونها تحدث بين دولتين مرتبطتين بعلاقات أسرية ومصلحية، لكن النزاع يقطّع تلك العلاقات ويضر بهذه المصالح، كما يخلق أجواء نفسية غير مريحة لكلا الشعبين. ونتذكر في هذا المقام ما حصل بين العراق والكويت عام 1990، عندما غزت قوات صدام حسين دولة الكويت، متسببة في استقطاب عربي غير مسبوق، فتخندق بعض العرب وراء الكويت وبعضهم الآخر وراء العراق. كما نتذكر نزاعات بينية أخرى، وخلافات داخلية تُغذيها الاختلافات العرقية والطائفية مثلت ساحة خصبة للتدخلات الإقليمية والدولية. المسألة في المقام الأول ثقافية حضارية، فالدول الاسكندنافية تجاوزت التفكير المؤامراتي والمغامراتي، وسمَت بنفسها على ما يمكن أن يكدِّر صفو علاقاتها مع جيرانها. لذا، تجد أن هذه الدول، رغم تباين أنظمتها بين جمهوري وملكي، فهي تعيشُ في سياق من التعايش الهادئ والمريح. ورغم عدم امتلاكها ثروات طبيعية أساسية، فإنها أصبحت دولاً صناعية راقية، واتخذت من رخاء الإنسان هدفاً. وهي تُخطط للحدائق والمتنزهات وليس للسجون وأدوات المخابرات! وكان التعليم من أهم اهتماماتها، ناهيك عن استخدام الطبيعة والبحار لخدمة الإنسان وإقامة الصناعات الأساسية. لقد هزّني الخبر المذكور، واستحضرتُ حالات الرُقي التي يجب أن تسود علاقات الدول العربية، التي يجمعها الدمُ والتاريخُ المشترك والمصيرُ الواحد، وكيف أن هذا الجزء من العالم، ومنذ انتهاء عهد الاستعمار والانتداب في الستينيات، لم يستطع أن يؤسس لدول تقوم على مبادئ المجتمع المدني، وتحفظ حقوق الأقليات، وتستطيع تسوية خلافاتها الداخلية والخارجية.. بل نشاهد في القمم العربية، التي يُفترض أن تُحلَّ فيها المسائل العالقة بين الدول، أن ممثلي هذه الدول يخرجون من القمم أكثر انقساماً! أتخيلُ مستقبلَ أحفادي في هذا العالم الذي كنا نُغني له في الصباح: بلادُ العُربِ أوطاني من الشام لبغدانِ ومن نَجدٍ إلى يَمنٍ إلى مصرَ فتَطوانِ وهل تحقق أدنى نوع من التقارب أو المحبة أو تحقيق المصالح المشتركة للشعوب العربية؟ جلُّ المشاريع التي أقيمت في هذه الدول لم تحقق أهدافها، بل كانت خاسرة، لأن جُلَّ الأنظمة تتعرض للإطاحة والزوال، لتأتي أنظمةٌ أخرى تحمل ملامح الفساد نفسها تقريباً! ولعلنا نستذكر هنا المشاريع الإنمائية في كل من سوريا، ولبنان، والسودان، واليمن، ومصر، وتونس.. وغيرها من الدول التي ابتُليت بأنظمة لم تلتفت لشعوبها، ولم تحقق أدنى مستويات الكرامة، فصار أن ذهبت أموال تلك المشاريع إلى جيوب القادة الذين استولوا على السلطة. إن هدية النرويج لجارتها فنلندا يجب أن يدرسها المستشارون المحيطون بصانعي القرار في الدول العربية، والذين يساهم بعضُهم في تبديد الثروات في مشاريع لا تفيد شعوبهم، وأن يَحثّوا القادة على حُسن إدارة البوصلة، وقراءة أوراق المستقبل، لأن التغيّر حتمي وخريطة العالم لن تظل كما هي. مبادرة النرويج عمل إيجابي يحقق الملجأ والغذاء والأمان للدول التي تفتقد هذه الأساسيات، إلى جانب الكرامة الإنسانية.