وجه الرئيس دونالد ترامب في الأسابيع الثلاثة الأولى لولايته رسائل تفيد بأن شعاره الانتخابي «أميركا أولاً» لا يعني تكريس سياسة الانكفاء التي اتبعتها إدارة أوباما، أو قبول انحسار الدور الأميركي في العالم. واتخذ ترامب مواقف تنم عن حزم تجاه الصين وإيران، وخيَّب أمل روسيا في تحول جوهري سريع باتجاهها. غير أن استعادة الدور الأميركي تفرض على أركان إدارة ترامب قراءة العوامل التي أدت إلى انحساره في السنوات الأخيرة، بعد أن ظل في حالة تمدد لأكثر من ستة عقود. بدأ هذا التمدد بانتزاع قيادة الكتلة الغربية من بريطانيا وفرنسا، ووصل إلى الانفراد بقمة النظام الدولي بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي السابق وكتلته في مباراة القطبية الثنائية. غير أنه بينما بلغ تمدد الدور الأميركي في العالم ذروته في مطلع الألفية الجديدة، حدثت مفاجأة (11/9) التي لم تكن بالحسبان. قبل ذلك بأشهر قليلة، كان بوش الابن قد بدأ فترته الرئاسية الأولى بمناقشة تقرير تعاونت عدة مؤسسات وأجهزة أميركية في إعداده، وحمل عنوان «الملاحة في أوضاع مضطربة»، ?لخص الوضع ?العالمي ?وخلص ?إلى ?توصيات ?يمكن ?اختزالها ?في ?اعتماد ?سياسات ?تتيح ?لواشنطن ?امتلاك ?الكلمة ?الأخيرة ?في ?أية ?قضية. ?وكان ?هذا ?التقرير ?هو ?الأول ?الذي ?حث ?على ?تشجيع ?تغيير ?جذري ?وسريع ?في ?العراق، ?ونصح ?بأن ?يكون ?رد ?الفعل ?الأميركي ?العسكري ?جاهزاً ?بشأن ?أي ?تطور ?يحدث ?في ?بغداد. لم يكن معدو التقرير يتوقعون ما حدث بعد أشهر قليلة، وجعل أفغانستان هي الهدف الأول للسياسة الهجومية التي أوصوا بها. لكن هجمات سبتمبر 2001 الدراماتيكية لم تحول اهتمام من استوعبوا ذلك التقرير عن العراق. وكانت هذه علامة أولى على الجمود الذي أصاب عملية صنع قرارات السياسة الخارجية، وجعلها أسيرة صور ذهنية لا تعبر عن الواقع دائماً. فرغم أن العراق كان بعيداً عن هجوم 11/9، تحركت أجهزة أميركية لافتعال تطور يوجب إحداث تغيير جذري وسريع فيه، فكانت قصة أسلحة الدمار الشامل المفبركة. وبدلاً من وضع استراتيجية واقعية لمواجهة الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة، ظل صانعو سياستها الخارجية أسرى «نظرية» التغيير في العراق بعد أن اكتملت تفاصيلها خلال عام 2002. وكانت مذكرة «الصدمة والهلع»، التي ?أعدها ?فريق ?قاده ?هارلان ?أولمان ?ونشرتها ?الصحافة ?في ?يناير ?2003، ?الحلقة ?الأخيرة ?في ?عملية ?الإعداد ?لغزو ?العراق. وهكذا مضت السياسة الخارجية الأميركية في الاتجاه الخطأ، فغرقت في مستنقعات الشرق الأوسط، ودعمت من حيث لم تقصد الإرهاب الذي تصورت أنها تقضي عليه بقوتها العسكرية الجبارة. فقد خلق الإفراط في استخدام هذه القوة أوضاعاً دافعة إلى التطرف، ومن ثم الإرهاب، في عموم بلاد المنطقة، وفي أوساط المسلمين في الغرب. وفي غضون ذلك، بدأت بوادر تغير في أنماط التفاعلات الدولية دون أن ينتبه إليها صانعو السياسة الخارجية الأميركية الغارقون في أوهامهم، وفي مستنقعات انزلقوا إليها. لذلك ربما يسجل التاريخ أن اللحظة التي بدا فيها الدور الأميركي طاغياً في العالم حين أُطلق 800 صاروخ كروز على بغداد في يومين لتحقيق «الصدمة والهلع»، كانت هي نفسها لحظة بداية انحسار هذا الدور في عملية تراجع استغرقت عقداً من الزمن. بدأ هذا التراجع في أواخر عهد بوش الذي «عالج» أخطاء إدارته بخطأ أكبر عندما سلم العراق لقمة سائغة لإيران. وواصل خلفه أوباما هذا المنهج، وزاد عليه رفع يد الولايات المتحدة عن صراعات المنطقة التي تصاعدت بدءاً من العام الثالث لفترته الرئاسية الأولى. وبينما فشلت إدارته في سياسة «التوجه شرقاً»، وانتهت فترته الثانية بفرض الصين إرادتها في منطقة شرق آسيا، ملأت روسيا الفراغ الذي ترتب على الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، وتنامى تهديد إيران في منطقتي الخليج وشرق البحر المتوسط، بعد «الاتفاق النووي» الذي سيسجله التاريخ بوصفه أحد أبرز مظاهر فشل تلك الإدارة. لذلك يتعين على إدارة ترامب، التي بدأت تفصح عن اتجاهات تعبر عن سياسة خارجية مختلفة، وتبدو عازمة على استعادة الدور الأميركي الذي انحسر في شرق آسيا والشرق الأوسط بصفة خاصة، أن تقرأ جيداً عوامل تراجع هذا الدور في السنوات الأخيرة.