سطع نجم الحضارة العربية في عهدها الزاهر، وأثرت الحضارات الإنسانية بشكل عام بالكثير من الابتكارات والإبداعات، وكان لها الدور الأساسي في تطور كثير من العلوم والمعارف في عصرنا الراهن، سواء في الطب أو الطيران أو غيرهما من القطاعات الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها. وقد بهرت إنجازات العرب والمسلمين الحضارية كل العظماء والقادة والمفكرين المنصفين، على مر التاريخ، ونسجت أمم كثيرة على منوال الحضارة العربية، واستلهمت منها، وسارت على طريقها، وهذه سُنة تاريخية، فالأمم والحضارات تتجاور وتتحاور وتتعاون وتتساكن عبر القرون والعصور. ولئن كان ماضي العرب المشرق ما زال مصدر إلهام تنهل من معينه أمم الشرق والغرب، على حد سواء، فما أحوجنا نحن العرب اليوم لأن نكون أول من يستدعي هذه الجوانب المشرقة من حضارتنا، وخاصة أن المنطقة العربية تواجه الآن العديد من التحديات والمعضلات المزمنة التي ينبغي الوقوف على أسبابها، والأخذ بزمام المبادرة من جديد على نحو يقود إلى الصدارة، ويضمن إعادة إرث حضارتنا الفكري ونتاجها العلمي، وروحها المنفتحة المستنيرة الكفيلة بأن تقود إلى بر الأمان، في كل زمان ومكان. ووعياً بهذه المعاني الجميلة، والغايات الجليلة، كان حديث الصعود والإقلاع الحضاري العربي من جديد، هو الصوت الأعلى والعنوان الأسمى خلال القمة العالمية للحكومات، حيث دعا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لاستئناف روح الحضارة العربية مجدداً، واستعادة روح المبادرة الحضارية الفاعلة، وبعيدة النظر، بما يضمن تجاوز التحديات وتحقيق الأمنيات وإنجاز التنمية البشرية وتحقيق السعادة والرخاء للأمم والشعوب في المنطقة، بل للإنسانية جمعاء. إن استعادة الأمل للشعوب في المستقبل، والنظر إليه بروح التفاؤل، أمر في غاية الأهمية، ويتعين أن تلعب الحكومات في المنطقة الدور الأهم في تحقيق مثل هذه الأهداف المنشودة، وأولها استعادة روح المبادرة الحضارية العربية، بتحفيز الإبداع والتجديد والريادة والتميز والتحفز للإنجاز، والسعي للوصول إلى الصدارة، وقد عُرف عن حضارتنا وثقافتنا قدرتها على إنتاج الإبداعات والابتكارات وتسطير الإنجازات والمعجزات، التي ظلت على مر القرون تتحدث عن نفسها، ويتحدث عنها العالم. إن ثقافات الأمم والشعوب المختلفة تتعاون لتحقيق رسالة الإنسان في العالم، ولإعلاء قيم التعايش والانفتاح على الآخر، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الذات والهوية. وخير مثال على ذلك هو التجربة الإماراتية الثرية التي جمعت بين الأصالة والحداثة، والحفاظ على القيم والموروث والهوية الوطنية وبين عملية التنمية المتوازية والمتوازنة، هذا وفق سياسات إنسانية راقية ملؤها التسامح والتعايش، وهو ما يبدو جلياً في طبيعة العلاقات التي تجمع بين أكثر من 200 جنسية تعيش وتعمل بانسجام في دولة الإمارات، تحت مظلة قانونية وتشريعية عززت قيم المساواة والمودة والاحترام بين الثقافات المختلفة، وبين الناس من كل الأعراق والأجناس. إن الاهتمام بالعقول والمواهب الشابة التي تتسلح بالعلم والمعرفة، هو مفتاح التنمية الإنسانية الناجحة، لأن القوى البشرية هي الثروة التي لا تنضب، وهي لبنات الحضارة والازدهار، وهذا ما أدركته دولة الإمارات وترجمته من خلال الاهتمام بالثروة البشرية، والتركيز على تعزيز دورها في عملية التنمية الشاملة، وتحقيق الاستثمار الأمثل في الطاقات الشابة والعقول النيرة، وهو ما جعل الشباب العربي ينظر للإمارات كونها النموذج الذي يريد لبلاده أن تكونه في مستقبلها، وأنها المكان المفضل لديهم للعمل والإقامة. وروح الحضارة العربية التي ينبغي أن يتم استئنافها من جديد، وإيقاظها من سباتها العميق، تقتضي أولاً وقبل كل شيء نفض غبار الفكر الضال وغشاوة الإيديولوجيات الهدامة عن القلوب والعقول، وقد رأت الشعوب ما تمخضت عنه من خراب ودمار.. وقد أوصلت حال شعوب الدول التي تعاني ويلات التطرف والإرهاب إلى الخروج من خريطة التطور والتحضر والتاريخ، والسقوط المريع الفظيع في «غيابات الجب» ومستنقعات الدمع والدم والعدم. إن الحضارة العربية في أطوارها الزاهية لم تصل إلى ما سطّرته من تطور وقيادة للركب التاريخي الإنساني في زمنها ذلك، إلا بعد أن مرت بمراحل حيوية مهمة في تاريخها وضمن أطوار قصة صعودها الباهر الزاهر، فكان أولاً الانفتاح والاقتباس والترجمة من الموروث الإنساني قبلها، ومن ثم تم تطوير ذلك الموروث الإنساني، وبدأت مرحلة التجاوز والإبداع، ورفد العقل والعلم البشريين ببعض أكبر الاختراعات والإبداعات الإنسانية في كل الأزمنة، وبذلك كرست عالميتها وجعلت الثقافات والحضارات الأخرى تتأثر بها وتنقل علومها ومعارفها بشمولية ودقة وثقة، حتى صارت كبرى الجامعات الغربية تطلق أسماء العلماء العرب والمسلمين الأوائل على قاعاتها ومكتباتها، وتتباهى بهم وبما قدموه من علوم للإنسانية جمعاء، بل صار الزي العربي رمزاً للعلم، وماركة مسجلة للعلماء يلبسونه في حفلات التخرج والمناسبات العلمية الكبيرة في جميع جامعات العالم حتى اليوم. ومن كان هذا ماضيه لن يعجزه تجاوز تحديات الحاضر والسير بثقة على طريق مستقبل الباهر. وهذا ما يتعين على الشعوب العربية إدراكه، والسعي لتحقيقه الآن. ومهمة استعادة روح الحضارة العربية تحتاج فقط إلى عزيمة صادقة وإرادة قوية، لإعادة ثقة الذات العربية في نفسها، وانتشالها من كبوتها الحضارية، حتى يسطع نجمها من جديد في سماء الإنسانية، وحتى تعود للتاريخ من بابه الواسع العريض. وقديماً لم تزدهر حضارتنا أو تنتشر ثقافتنا بقوة السلاح أو الفتوحات والتوسع لمساحات شاسعة على الأرض، بل انطلقت هذه الحضارة من رافعة الثقافة، وكانت في الأساس حضارة حرفٍ وقلم وكتاب. وبعد عودة روح الأمل اليوم وتوافر الإرادة وروح المبادرة على حكومات المنطقة الاستفادة من التجارب العربية الناجحة في التنمية والتجديد والصعود والإبداع والتميز، وفي مقدمتها طبعاً تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، أنجح نموذج عربي. وعلى العرب جميعاً اليوم السعي بقوة الأمل والعمل لإعادة إنتاج العقل العربي وروح الحضارة العربية من جديد، والعودة إلى صدارة التاريخ والمجد التليد.