تتباين أنواع تسمم الإنسان تبعاً لعدة تقسيمات، منها التسمم الحاد الذي يحدث نتيجة تعرض الجسم لكمية كبيرة من السموم، وفي زمن قصير. وعلى العكس من ذلك، قد يتعرض الإنسان لتسمم مزمن، نتيجة دخول سم إلى الجسم بكميات صغيرة على فترة زمنية طويلة، قد تستمر لأسابيع، وشهور وسنين أحياناً. وكثيراً ما يحدث التسمم المزمن نتيجة مواد كيماوية موجودة في البيئة المحيطة، أو من خلال تناول نوع معين من الغذاء، يكون إما ملوثاً نتيجة إضافات كيماوية متعمدة، مثل مبيدات الحشرات ومبيدات الحشائش، أو أن يحتوي الغذاء على عناصر سامة، دخلت في تركيبه ومكوناته من البيئة الطبيعية. وأحد أشهر وأهم الأمثلة على هذا الاحتمال الأخير، هو العلاقة بين حبوب نبات الأرز، المزروع بشكل طبيعي في ظروف اعتيادية، وبين التسمم بعنصر الزرنيخ (Arsenic). ولكن قبل التعرض لهذه الحالة الطبية المهمة، التي تؤثر على عشرات الملايين حول العالم، لابد أن نتوقف قليلًا عند الأهمية التي يحتلها نبات الأرز في غذاء إنسان العصر الحديث. فهذه الأهمية تتضح من حقيقة أن محصول الأرز يحتل حالياً المرتبة الثالثة بين جميع المحاصيل الزراعية من حيث حجم الإنتاج العالمي الإجمالي، ولا يسبقه على هذه القائمة إلا محصولا قصب السكر والذرة. ولكن بما أن قصب السكر لا يستهلك مباشرة وإنما يستخدم لإنتاج السكر، وبما أن جزءاً كبيراً من محصول الذرة العالمي يستخدم لإطعام الماشية والبهائم، يعتبر الأرز هو المحصول الأول على صعيد حجم الاستهلاك البشري العالمي، حيث يوفر الأرز حالياً 20 في المئة من مجموع السعرات الحرارية التي يتناولها أفراد الجنس البشري قاطبة حالياً. وترتفع هذه النسبة إلى مستويات أعلى بكثير في العديد من الدول الآسيوية والأفريقية، وخصوصاً الدول التي تتوفر فيها عمالة يدوية رخيصة، ويتمتع مناخها بمطر غزير. ولكن نتيجة كون محصول الأرز يزرع في الأراضي الزراعية المغطاة بالمياه، سواء بفعل الفيضانات أو الري بالغمر، وهو ما يحرر عنصر الزرنيخ الموجود أساساً طبيعياً في التربة، ويجعله أكثر توفراً وسهولة في الامتصاص، لذا تحتوي حبوب الأرز على كميات مرتفعة من هذا العنصر السام، التي امتصها النبات أثناء نموه، إلى درجة أن حبوب الأرز تحتوي على عشرة أو عشرين ضعف ما تحتويه محاصيل الحبوب الأخرى من الزرنيخ. ولكن هل هذا يعني أن تناول الأرز يشكل خطراً على الصحة؟ إجابة هذا السؤال ليست بالسهلة أو المباشرة، حيث تعتمد إلى حد كبير على حجم الاستهلاك، وعلى طريقة الطهي. فمثله مثل التدخين، لا يمكن أن نقارن التبعات الصحية السلبية على من يدخن سيجارة أو اثنتين خلال اليوم، بمن يدخن علبتين من السجائر أو أكثر في اليوم الواحد. فعلى سبيل المثال، لا يشكل تناول بضعة أطباق من الأرز خلال الأسبوع، خطراً يذكر، وإن كان هذا الوضع يختلف مع الأطفال الصغار والرضع. فمن المعروف أن المستويات المنخفضة المزمنة من الزرنيخ في الجسم تؤثر على نمو الجهاز المناعي، وعلى النمو والتطور بوجه عام، وتؤثر أيضاً على معدل الذكاء. ولذا تفرض التشريعات والتنظيمات معايير أعلى في المسموح به من الزرنيخ في الأغذية الموجهة والمسوقة للأطفال. ولكن هذا لا يعني أن الأطفال صغار السن لا يتناولون أحياناً أنواع الأغذية المخصصة أصلًا للكبار والبالغين، وهو ما يعرضهم للتبعات السلبية للتسمم المزمن بالزرنيخ. وإن كان هذا الوضع من السهل التعامل معه من خلال أسلوب الطهي. فالمتعارف عليه حالياً هو طهي الأرز مع الماء، بنسبة 1 كوب أرز إلى 2 كوب ماء، ولكن إذا ما تم طهيه بنسبة 1 كوب أرز إلى 5 أكواب ماء، والتخلص من الماء الزائد عند النضج، فستنخفض نسبة الزرنيخ النهائية بشكل كبير. ولكن الأسلوب الأفضل، والذي يمكنه تخليص الأرز من 80 في المئة من محتواه من الزرنيخ، هو نقع الأرز خلال الليل في ماء وفير، والتخلص من هذا الماء قبل الطهي. والخلاصة أن الأرز غذاء شهي ولذيذ ومغذٍ، وآمن في حالة تناوله بكميات معتدلة، وإن كان من الممكن زيادة درجة الأمان فيه من خلال طهيه مع كمية كبيرة من الماء، أو نقعه لعدة ساعات في ماء وفير، مع الوضع في الاعتبار أنه غذاء مرتفع المحتوى من السعرات الحرارية، ولذا يجب الاعتدال في تناوله، ضمن نظام غذائي صحي، يعتمد بشكل أساسي على الخضروات والفواكه الطازجة، بالإضافة إلى الحبوب والبروتينات الصحية، وضمن نمط حياة يتميز بالنشاط البدني وممارسة الرياضة.