بينما ترددت أصداء الاحتفالات في مقديشو بمناسبة فوزه، أعلن الرئيس الصومالي الجديد محمد عبد الله محمد فرماجو، أن انتخابه سيكون «بداية لتوحيد الأمة الصومالية، وللكفاح ضد الفساد وحركة الشباب». ورغم الاضطرابات الأمنية وحالة انهيار الدولة في الصومال منذ ربع قرن، فقد سارع المرشح والرئيس المنتهية ولايته، حسن شيخ محمود، إلى الترحيب بنتيجة الاقتراع ومباركة فوزه للمرشح الفائز. وفرماجو، سياسي ودبلوماسي ورجل دولة صومالي، سبق أن ترأس الحكومة الصومالية، كما تزعم حزب «تايو»، قبل أن يصبح رئيساً للصومال يوم الأربعاء الماضي، بأغلبية أصوات البرلمان. وقد ولد محمد عبدالله محمد فرماجو في مقديشو عام 1962، أي بعد عامين من إعلان «جمهورية الصومال» المستقلة عقب اتحاد الصومالين البريطاني والإيطالي. وهو ينتمي لقبيلة الدارود المنتشرة في عدة أقاليم من البلاد. كان والده موظفاً حكومياً في وزارة النقل، وبعد أن أنهى تعليمه الابتدائي ثم الثانوي، التحق بوزارة الخارجية في حكومة الجنرال سياد بري، وفي عام 1985 تم ابتعاثه سكرتيراً في السفارة الصومالية بواشنطن، وهناك أكمل تعليمه الجامعي، حيث حصل على ليسانس في التاريخ من جامعة نيويورك عام 1993، ثم على شهادة الماجستير في العلوم السياسية عام 2009، عن بحث بعنوان «المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الصومال: من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب». وكان فرماجو قد طلب اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة بعد سقوط نظام بري واندلاع الحرب الأهلية في الصومال، ليحصل على الجنسية الأميركية عام 1994، حيث نشط في العديد من المنظمات الخيرية الإنسانية، وعمل موظفاً في بلدية بوفالو، وتقلد عدة مناصب فيها تعنى بالمواصلات والبيئة ومساواة الأعراق. وخلال سنوات عيشه في أميركا، كانت الصومال مسرحاً لتطورات دامية وعنيفة. ففي عام 1991 أطاحت قوات قبلية مدعومة من إثيوبيا بالرئيس بري. ورغم اختيار «علي مهدي محمد» رئيساً مؤقتاً للبلاد، فقد لاقى اختياره اعتراضاً قوياً من جانب الفريق محمد فرح عيديد، زعيم «المؤتمر الصومالي المتحد»، مما ضاعف الانقسام داخل الساحة الصومالية، وأوقع تناحراً شديداً بين قوات الرجلين تحول إلى حرب أهلية طاحنة. وحاول المجتمع الدولي إحلال السلام في الصومال، لكن قوات عملية «إعادة الأمل» الأميركية تعرضت لخسائر مهينة على أيدي مقاتلي عيديد، مما قوض آمال الرئيس بوش الأب في نيل ولاية ثانية في البيت الأبيض، فانسحبت القوات الأجنبية مانحةً الفرصة للقبائل الصومالية لاستكمال صراعها المسلح. ولم تفلح المبادرات والمؤتمرات الكثيرة في إعادة الوفاق والسلام إلى الصومال. وفي ظل فراغ السلطة القائم منذ عام 1991، ظهرت «المحاكم الإسلامية» كنظام أهلي للتقاضي، وكوجه لتحالف رجال الدين والتجار.. ونما دورها لتقدم خدمات طبية وتعليمية وأمنية، وأخذت تتصدى لأمراء الحرب، وارتبط معظمها بقبيلة «هوية» المسيطرة على مقديشو. وقد ترأسها رجل الدين شيخ شريف شيخ أحمد، قبل أن يتحالف مع رجل الدين المتشدد طاهر عويس ويعلنا سلطة المحاكم الإسلامية على البلاد، مما دفع إثيوبيا لتنظيم حملة عسكرية أطاحت بنظام المحاكم الإسلامية، وأشرفت على تنصيب اللواء السابق عبدالله يوسف أحمد لدى انتهاء ولاية عبدالقاسم صلاد الذي ترأس البلاد بموجب توافقات مؤتمر عرتا عام 2000، لكنه لم يستطع بسط سيطرة الحكومة المركزية. وبعد هزيمة المحاكم الإسلامية عام 2007 وفرار معظم قادتها خارج الصومال، ظهر شيخ شريف شيخ أحمد في كينيا، ليعقد تفاهمات مع الأميركيين والإثيوبيين، تم على إثرها انتخابه رئيساً للبلاد في يناير 2009، فكلف عمر عبدالرشيد شارماركي (الدارود) برئاسة الوزراء، لكنه اختلف معه، ليستدعي من نيويورك فرماجو ويعينه في أكتوبر 2010 رئيساً للحكومة، فقوبل تعيينه بترحيب خارجي، ورآه مراقبون ومواطنون صوماليون مدعاة للتفاؤل بالتصدي لتحديات الفوضى والفقر وضعف التنمية.. لاسيما أنه كصومالي مغترب غير منخرط في الصراعات المحلية، ومتمرس بالعمل بالدبلوماسي وتقاليد النظم الديمقراطية العريقة. ووصف فارماجو حكومته لدى عرضها على البرلمان، بـ«المختصة وذات المصداقية»، وقد ضمت 18 حقيبة فقط، مقارنة بـ39 في الحكومة السابقة، وكان معظم وزرائه من التكنوقراط والوجوه الجديدة. وفي أول شهرين لها، بدأت حكومة فرماجو دفع كامل مرتباتهم الشهرية للجنود الحكوميين، كما وضعت سجلاً بيومترياً لقوات الأمن، وقامت بتوسيع اللجنة المستقلة لوضع الدستور الصومالي الجديد، وأوفدت بعثات لإنهاء التوترات القبلية في مناطق البلاد. وعمل فرماجو على تحسين مستوى الشفافية الحكومية، فوضع كشفاً شاملاً للممتلكات العمومية، ومدونة لقواعد سلوك الموظفين الحكوميين، وأسس لجنة لمكافحة الفساد، وحد من تكاليف الأنشطة الحكومية. وفي غضون أشهر أصبحت حكومته تسيطر على نحو 60% من مساحة مقديشو، ووضعت نحو ألف من القوات المدربة حديثاً على الطرقات وفي الشوارع، وبدأت تجهز لإضافة أربعة آلاف آخرين. لكن الخلاف بين الرئيس شريف أحمد ورئيس البرلمان شريف حسن حول موعد الانتخابات الرئاسية، انتهى بتوقيع «اتفاق كمبالا» في يونيو 2011، والذي بمقتضاه تم تأجيل التصويت على الرئيس ورئيس البرلمان سنة إضافية، مقابل إقالة فرماجو من رئاسة الحكومة. عندئذ خرجت مظاهرات في مقديشو تطالب بالعدول عن إقالة رئيس الحكومة، والذي وجه كلمة إذاعية شكر فيها مؤيديه وحثهم على الهدوء، ودعا للإفراج عن جميع المتظاهرين المعتقلين، وطالب بعرض «اتفاق كمبالا» على البرلمان لإجازته، لاسيما أن أكثر من 200 نائب برلماني أعلنوا رفضهم إياه. عندئذ بدأ الصومال يدخل أزمة سياسية يصعب الخروج منها، لكن فرماجو فصل دائرة الأزمة بإعلانه في يوم 19 يونيو 2011 الاستقالة من رئاسة الحكومة، قائلاً إنه يتنحى «خدمة لمصلحة الشعب الصومالي ومراعاة للوضع الحالي في الصومال». ثم غادر عائداً إلى الولايات المتحدة ليستأنف عمله ببلدية بوفالو بولاية نيويورك. لكن بعد عدة أشهر عاد فرماجو إلى مقديشو ليؤسس حزباً سياسياً باسم «تايو» (الجودة). وفي أغسطس من ذلك العام، كان أحد المتقدمين لانتخابات الرئاسة، لكنه هزم في الجولة الأولى من التصويت. ثم منح تأييده في الجولة الثانية للأكاديمي والناشط الاجتماعي حسن شيخ محمود الذي ألحق الهزيمة بالرئيس المنتهية ولايته شريف شيخ أحمد (190 صوتاً مقابل 79). ثم عاد فرماجو وخاض الانتخابات الرئاسية الأربعاء الماضي، مع 19 مرشحاً، مركزاً خطابه الانتخابي على التحرر من الجوع، ومواجهة «حركة الشباب»، والعمل على عودة المغتربين الصوماليين في الخارج. وبينما حصل في الجولة الأولى على 73 صوتاً من أصل 329 (إجمالي عدد نواب البرلمان الصومالي بغرفتيه؛ مجلس الشعب ومجلس الشيوخ)، متأخراً عن الرئيس المنتهية ولايته حسن شيخ محمود (88 صوتاً)، فقد تقدم عليه في الجولة الثانية بحصوله على 184 صوتاً، مقابل 99 صوتاً لشيخ محمود، و49 للرئيس الأسبق شريف شيخ أحمد. ثم لم تكن هناك حاجة لجولة ثالثة بعد أن بادر الرئيس المنتهية ولايته للتنازل عن خوض غمارها، معترفاً بهزيمته ومقدماً التهنئة لمنافسه فرماجو على فوزه بالمنصب الرئاسي، ليصبح الرئيس التاسع للصومال منذ استقلاله عام 1960. ورغم ما يتمتع به فرماجو من تأييد داخلي وخارجي، فإن تحديات كبيرة تنتظره؛ في مقدمتها الملف الأمني الذي أرهق البلاد طوال العقود الماضية وتفاقم عبؤه مع ظهور «حركة الشباب»، علاوة على تحديات التنمية الاقتصادية ومواجهة البطالة والفقر وضعف البنية التحتية. هذا علاوة على ضرورة الانسجام بين المكونات الرئيسية لجسم السلطة وفق المحاصصة القبلية كما أقرها «مؤتمر عرتا» عام 2000. ففي يوم الأربعاء الماضي أيضاً تم انتخاب محمد عثمان جواري رئيساً للبرلمان الجديد، وهو من قبيلة «دغل ومرفلي»، كما هو شأن سلفه. وها هو فرماجو المنتمي لقبيلة الدارود قد أصبح رئيساً، مما يعني أن رئيس الحكومة سيكون حتماً من قبيلة «هوية». فهل يستطيع الأميركي العائد من نيويورك احترام التوازنات القبلية واستيعاب حساسياتها، وإدارة حكم عصري فعال ومتطور وقادر على التصدي للتحديات؟