تشبه «هيلغا ناووتني» الرئيسة السابقة للمجلس الأوروبي للأبحاث الأوضاع الحالية التي يعيشها العالم اليوم بالحقبة التي عاشتها أوروبا والعالم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فأوجه الشبه فيما بين عالمنا المعاصر وذلك الوقت جلية للغاية، وتتضح حسب قولها في استمرارية إبهار العلماء وإدهاشهم لنا باكتشافاتهم المذهلة التي تمكنت من انتشال مليارات الناس على مستوى العالم من براثن الفقر، ولكن سحب الشر حينها سرعان ما بدأت تتجمع في الأفق، وضرب الإرهاب أوروبا بعنف انتقامي، وهرب ملايين اللاجئين من نيران الحروب والجوع، مما أثقل كاهل المؤسسات الأوروبية والتماسك الاجتماعي، وبرزت الحركات الشعبوية التي تنادي بغلق الحدود وبناء الجدران. وحسب «هيلغا» فقد تزامن ذلك أيضاً مع تصاعد أفكار القومية، وكراهية الأجانب، والتوترات الجيوسياسية والإرهاب، فاغتال الفوضويون القيصر الروسي، والإمبراطورة النمساوية، والرئيسين الأميركي والفرنسي، وجاء اندلاع الحرب العالمية الأولى كضربة شبه قاضية للحضارة الأوروبية. أيّاً يكن فإن ما أشارت إليه «ناووتني» صحيح إلى حد بعيد، فنحن نلحظ الآن انتعاش الإسلام السياسي بكل تياراته في أجواء التوتر الحضاري والتماس الديني، وما يجري اليوم في العالم، وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ضد المسلمين، يمكن أن يعزز هذه الجماعات والتنظيمات الإسلامية في العالم العربي وفي الغرب أيضاً، حيث ستعمل هذه المنظمات تحت السطح، وبشكل سري متغلغلة في شرائح اجتماعية مسلمة يزداد خوفها وحنقها وشعورها بالعداء ضدها والكراهية. فالمواقف المعادية للمسلمين التي تصَّاعدت بالتزامن مع التشريعات والقوانين المتشددة ستجعل من ضمن أهدافها المؤسسات والجمعيات الإسلامية في الغرب من دون تمييز، وإن كان في طمي هذا الاستهداف ما نتوقعه من ضربات لمؤسسات «الإخوان المسلمين» في الغرب أو التي تدور في فلكها أو المتعاطفة معهم، ولكن هذه الإجراءات من المحتمل جداً أن تتسبب بفراغ يمكنه أن يضاعف الأمر سوءاً، وهنا على الدول العربية أن تدرك الخيط الرفيع الذي يمايز بين دعم أي سياسات غربية متشددة لضرب «الإخوان المسلمين» ومن في معناهم من التنظيمات، وبين استهداف المسلمين. الحقيقة إنه من العسير للغاية في العالم الغربي خصوصاً الفصل بينهما ما لم تنتعش مذاهب إسلامية وأنماط دينية يضمن توسع رقعتها وتكاثر المؤمنين بها تحجيمَ الأفكار الغالية. لا خيار أمام المجتمعات الإسلامية إلا الانتصار على التمدد المريع لفكر الغلاة، وعلى الزعماء السياسيين والدينيين أن يعوا جيداً أنه لا مناص أمامهم إلا النجاح، خصوصاً الدول الإسلامية المهمومة بحماية مجتمعاتها من التطرف والأفكار الدينية الغالية، وأسسها المستمدة من عقائد قديمة ملفقة من عدة نزعات عرفها العالم الإسلامي منذ قرون، وهي الآن لا تزال مؤثرة وفاعلة في عدد من البقاع الإسلامية التي تعاني من الهشاشة وعدم الاستقرار، وتقاسي بعض شرائحها الاجتماعية من الأثرة الاجتماعية والتهميش. إن المسلمين اليوم في حاجة ماسة إلى زعماء يدركون أن قناعتهم بحماية حدودهم الاجتماعية، وتنقية مقرراتهم المدرسية ومساجدهم والرقابة الصارمة على الإنترنت ووسائل التواصل ليست كافية، عليها أن تسعى بالتوازي مع واجبها لحماية بيضتها الداخلية إلى القيام بضرباتها الاستباقية الناعمة خارج حدودها في جوارها، عبر تعزيز الأصوات والمدارس التي تعتنق الاعتدال والوسطية الدينية، وتدعم أسماء وأفكاراً كانت على الدوام أبرز معالم التسامح والمحبة عبر تاريخ حضارتنا. واليوم ونحن نعيش في الإمارات العربية المتحدة نعي جيداً معنى ما أشارت إليه «ناووتني»، ففي ظل هذه الأحزان والمخاوف، تقدم الإمارات عبر قيادتها للعالم نموذجها لتحيي الأمل في استئناف حضارتنا العربية، ويمثل صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد قائداً فذاً ملهماً لزعماء العالم شارحاً أفكاره أمامهم وكيف تحولت الأفكار إلى واقع.