نال عالم الأحياء الياباني «يوشينوري أوسومي»، جائزة نوبل في الطب حول أمر يدركه العوام، ولكن سره في بئر عميقة من أسرار الطبيعة. قديماً ترد وصية أبي الأطباء «أبوقراط» إلى زملائه الأطباء: «إن استطعتم شفاء مريضكم بالغذاء الصحيح فكفوا عن أي علاج». ويقوم حالياً فريق من جامعة «ييل» بقيادة الطبيب «رسلان ميدزيتوف» بتتبع ظاهرة الشفاء الذاتي في الجسم، عن طريق محض الحمية والغذاء، فقاموا بالتجربة التالية على الفئران: فقد حقنوا الحيوانات بالفيروسات والبكتيريا الممرضة، ثم أخذوا المصابة فأطعموها على شكلين بالإشباع والتجويع، فوصلوا إلى نتائج عجيبة متناقضة، لا علاقة لها مطلقاً بالغذاء أو الإنتان المرضي، فساعة يصبح الغذاء سماً زعافاً، وفي الأخرى شفاء وقوة، فأين السر إذن في الحمية؟ هذه النتيجة والتجربة تم نشرها في مجلة (Cell) العلمية. والمجموعة من الفئران التي حقنت بالجراثيم الممرضة قسمت مجموعتين الأولى أطعمت جيداً، والثانية غذيت بسوائل قليلة الكالوري، وكانت النتيجة أن من غذيت جيداً مات معظمها، ومن أكلت أقل مات النصف منها تقريباً. أما تلك التي حقنت بالفيروسات الممرضة ثم غذيت فأعطت نتائج مختلفة عن نظيرتها، فما غذيت عاش منها 80% وما جاعت منها عاش 10% منها؟ عجيب، كيف تناقضت النتائج فأين الحمية الصحيحة إذن؟ نحن نعرف من الخبرة اليومية أن الإصابة بالرشح (البرد) سببه فيروسي، ولكنه إن تطور إلى التهاب مقيح جرثومي ارتفعت فيه حرارة أحدنا فكيف يعالج بالحمية؟ هنا الحدس والميل الشخصي يدل على المفتاح. وفي المثل البريطاني في معالجة البرد والالتهاب قولهم: «في البرد أكل وفي الالتهاب جوع». في الرشح (نزلة البرد) يميل أحدنا إلى تناول السوائل من الشاي والعسل وحساء الدجاج، أما في الالتهاب فيسقط أحدنا وتنسد شهيته، ولكن هل هذا سليم من تصرف البدن؟ لقد وجد أن ما يفعله البدن تشهد له الطبيعة والأدب والعلم! ويسعفنا الأدب الروسي مع دوستويفسكي في قصته عن «ماريا شاتوفا» كيف كانت تكتفي بنصف طاسة من الماء وكسرة خبز، أما لحم العجل فتعافه. إنها آلية ذكية يقوم بها الجسم للخلاص من الاعتلال. وقد يظن بعض الناس أن الاعتكاف عن الطعام أو ما نسميه نحن المسلمين الصيام أمر لا يتماشى مع الوهن لدى المرض، فكيف نضيف فوق الاعتلال قلة الطعام. ويبدو أن القمه (Anorexia) هي بالضبط الاستراتيجية الحكيمة في مقاومة المرض، فقد افترض الباحثون من جامعة جنوب أفريقيا، أن نقص التغذية وتخفيف الجسم من دخول المزيد من البروتينات يشكل راحة رائعة للبدن مما يحرض خلايا البدن على التهام العناصر المرضية أو البروتينات التي لا حاجة للجسم بها فينجو من المرض. هذه الآلية تسمى البلعمة أو الالتهام الذاتي (Autophagia) وهي ما أخذ عليه الطبيب الياباني «أوسومي» جائزة نوبل للطب في خريف 2016. وقد لاحظت مجموعة الدكتور «ميدزيتوف» أن سكر العنب يؤثر بشكل متضارب على الخلايا، تلك التي أصيبت بالهجوم الجرثومي أو الاحتلال الفيروسي. فأما الخلايا المبتلاة بالجراثيم، فالإفراط بتناول السكر يضر بها، وعلى العكس فالخلايا في الاحتلال الفيروسي تقوم بآلية الانتحار الذاتي كي تقطع الطريق على الفيروسات للتكاثر، فالفيروسات كما نعرفها من مرض الإيدز الخبيث أنها تتكاثر على حساب الخلايا ومن داخل الكود الوراثي، فتفضل الخلايا الموت على أن تدعها تتكاثر. والدكتور رسلان يحاول هنا أن يضرب ضربته العلمية فيحرم الجسم من الغذاء على نصيحة «أبو قراط» القديمة بأنه لا داعي للعلاج إن كانت ثمة طريقة للعلاج بالحمية والغذاء.