في بعض الأحيان قد يجد المواطن العربي باختلاف انتماءاته وطوائفه ومذاهبه وتياراته السياسية نفسه، وهو في مواجهة سؤال مُلح: لماذا وصلنا نحن العرب إلى هذه الحالة من العجز المطلق؟ هل يمكن تحديد الأسباب وهل يمكن تجاوزها؟ هل هي أسباب تاريخية أم سياسية أم ثقافية؟ لقد وصلنا نحن العرب إلى هذه الحالة لكل تلك الأسباب، يقول لسان الحال. فإذا نظرنا إلى مصر مثلًا كنموذج لباقي الأقطار العربية، نجد أنه على رغم أهمية ثورة 1952 من حيث الاستقلال السياسي والاقتصادي ومقاومة الاستعمار والصهيونية، إلا أنها احتكرت العمل السياسي، فأصبح النضال السياسي جزءاً من العمل الرسمي للدولة وتنظيماتها السياسية في ذلك العهد. واندفع البعض يومها بدافع التسلق وتفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة. وآثر آخرون الانعزال. فنشأت أجيال جديدة لم تتعود على ممارسة النشاط السياسي والانخراط في حركة الجماهير باستثناء الهبّات الشعبية بعد هزيمة 1967 في مظاهرات مارس 1968، وميدان التحرير 1971، والانتفاضة الشعبية في 1977، والمظاهرات ضد العدوان على العراق في 1998، وثورة يناير 2011، وثورة 30 يونيو 2013. ويمكن التخلص من هذه اللامبالاة السياسية بحرية الفرد وديموقراطية الحكم والتعددية السياسية وعدم التفرقة في الجامعة بين العلم والوطن. ومنذ الجمهورية الثانية في 1970-1981 كانت معظم السياسات تابعة للغرب عامة وللولايات المتحدة الأميركية خاصة. وكان الشعار أن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا مما أوحى بأولوية العامل الخارجي على العامل الداخلي. وساد النمط نفسه في الاقتصاد والثقافة والعلم. وكلما زادت التبعية ضعفت الثقة بالنفس. وكلما زاد الاعتماد على الخارج قل الاعتماد على الداخل، فارتهنت الإرادة الوطنية، في فترة معينة، بالقمح والمعونات والوعود بحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. ويمكن التخلص من هذا الوضع بالحرص على الاستقلال الوطني، والاعتماد على الداخل قبل الخارج، والثقة بالنفس، والتخلص من عقدة «الخواجة»، وتقوية الاقتصاد المحلي من خلال الاهتمام بالصناعة والزراعة، واستغلال جميع الموارد والسواعد الوطنية، وباسترداد زمام المبادرة التاريخية كما حدث في تأميم قناة السويس في 1956 وحرب أكتوبر في 1973. وثقافة الرضوخ والاستكانة وانتظار العون من الخارج ظلت، في تلك الفترة، هي السائدة في الثقافة الشعبية بناء على الموروث القديم الذي أفرزته ثقافة السلطة. فما زالت بعض الأقوال العامية سارية في هذا المعنى، مثل «يا متعوس يا متعوس غير رزقك ما تحوش»، و«تبقى في أيدك وتقسم لغيرك». وقد حاول المجددون تجاوز ذلك بالدعوة إلى حرية الاختيار، والمسؤولية عن الأفعال وعلى ذلك الجزاء، ثواباً أم عقاباً. ومع ذلك استمرت ثقافة الاستسلام. ولم يحاول المثقفون الوطنيون إعادة بناء الثقافة بحيث ترتكن على تراث العدل، ورد العدوان، وحمل الأمانة التي عرضت (عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ). نحن خير أمة أخرجت للناس، ولذلك شرطه وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك تكاتفت اللامبالاة التاريخية والتبعية السياسية والاستكانة الثقافية ووصل العرب إلى ما هم عليه الآن من تهميش وتغييب وإزاحة. وهو ما يضعف من تأثير القرار السياسي للأمة في العالم، وأصبح العرب لا حول لهم ولا قوة أمام التحدي الصارخ من قبل إسرائيل وحلفائها في الغرب، لتنفيذ مشروعهم، مخطط «الشرق الأوسط الكبير»، الذي يهدف إلى تقسيم الدول العربية إلى دويلات صغيرة، وتفتيت وحدة الأمة، وافتعال الفتن والخلافات العرقية والمذهبية والدينية والعشائرية بين أبناء الوطن الواحد وهو ما يحدث الآن بشكل واضح في سوريا واليمن وليبيا والعراق والصومال. ‏(وَاعْتَصِمُوا ?بِحَبْلِ ?اللَّهِ ?جَمِيعاً ?وَلا ?تَفَرَّقُوا..). د. حسن حنفي* * أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة