ربما لا يوجد بلد غربي اكتوى بنار الإرهاب خلال السنوات الأخيرة أكثر من فرنسا. فمنذ 2012، عندما قتل الشاب الفرنسي محمد مراح سبعة أشخاص في مدينة تولوز، شهدت فرنسا سلسلة من الهجمات كان أكبرها هجوم باريس في نوفمبر 2015، الذي قُتل فيه 130 شخصاً، وهجوم نيس الذي استُعملت فيه شاحنة لقتل الراجلين دهساً على الواجهة البحرية لمدينة نيس في يوليو الماضي، وأسفر عن مقتل 86 شخصاً علاوة على مئات الجرحى. النقاش الوطني الذي يحتدم في فرنسا على أثر كل هجوم يميل، بشكل عام، إلى التركيز على سؤالين اثنين: أولاً، لماذا أصبحت فرنسا تحديداً هدفاً مفضلاً للحركات الإسلامية المتطرفة؟ وثانياً، ما العلاقة، إن وُجدت، بين النصوص الإسلامية والأعمال التي يقوم بها الإسلاميون المتطرفون؟ هذا الجدل الفكري، لا سيما ما يتعلق منه بالسؤال الثاني، رسم ملامحه بشكل رئيسي أستاذا العلوم السياسية والمتخصصان في الحركات الإسلامية، أوليفييه روا وجيل كيبل، حيث يرى «روا» أنه لا يوجد شيء «إسلامي» بخصوص آفة العنف، إذ يقول: «إن الأمر لا يتعلق بتطرف الإسلام وإنما بأسلمة التطرف»، محاججاً بأن البعد الديني للظاهرة يُعتبر ثانوياً بالنسبة إلى ما يسميه «تمرد الأجيال». ويرى في كتابه «الجهاد والموت»، الذي نُشر الخريف الماضي، أن جذور افتتان الإسلاميين المتطرفين بالموت لا تعود إلى الدين وإنما إلى نوع من «العدمية». لكن «كيبل» يرفض هذا التحليل، ويشدد على تأثير تنظيمات مثل «داعش» و«القاعدة» وأتباعهما في فرنسا، وعلى النوع السلفي من التدين الإسلامي السني. على أن اعتراضه على «روا» مرتبط أيضاً بالمنهجية، إذ يعتقد أنه من المهم والمفيد الاستماع إلى ما يقوله الإسلاميون المتطرفون أنفسهم عن أفعالهم ومعتقداتهم، والأخذ بما يقولونه. وهذا بالضبط ما يفعله الكاتب والصحفي الفرنسي دافيد تومسون في كتابه الجديد «العائدون»، الذي يشكّل مساهمة قيّمة في النقاش الذي ظل مقتصراً حتى وقت قريب على كيبل وروا. الكتاب هو ثمرة مقابلات أجراها تومسون بين 2014 و2016 مع متطرفين في فرنسا، وفي السجن، وعبر الهاتف من سوريا والعراق. ونتعرف بين ثناياه على أشخاص مثل بلال وياسين والزبير ولينا، وهم شباب ذوو ملامح ومسارات مهنية مختلفة. بعضهم عاد من ساحات المعارك في سوريا بعد أن ضاق ذرعاً بحجم العنف المستشري هناك وبالهجمات التي أفجعت فرنسا، ويسعى جاهداً لدفن الماضي والاندماج في المجتمع من جديد. وبعضهم عاد مصاباً بجروح أو عاهات أو محطَّماً نفسياً. وبعضهم في السجون، حيث يطرح تجمعهم من جديد مشاكل جديدة تبدو اليوم غير قابلة للحل. هذا في حين عاد بعضهم عاقداً العزم على مواصلة القتال على الأراضي الفرنسية! ومن هؤلاء العائدين «ياسين»، وهو ابن لأبوين طبيبين ذهب للقتال مع «داعش» في 2014، و«كيفن» الذي اعتنق الإسلام وأمضى أربع سنوات في الشرق الأوسط قبل أن يقرر العودة عندما بدأ الوضع العسكري للمقاتلين المتطرفين يتدهور. ومثلما يلفت إلى ذلك تومسون، فإن حالة «ياسين»، الذي كان طالباً متفوقاً وينحدر من عائلة مستقرة وميسورة، لا تنسجم مع «معادلة الهجرة- الانحراف- الضواحي» التي يقوم عليها معظم التفسير الرسمي للتهديد الإرهابي، لا سيما برامج «إزالة التطرف» التي يُتوقع أن يخضع لها أولئك العائدون من سوريا. الشهادات التي استقاها تومسون من العائدين من ساحات القتال في سوريا تدعم موقف كيبل، بدلاً من موقف روا. فعلى غرار كيبل، يشدد المؤلف على الدور الذي يلعبه التدين السلفي في دفع شباب فرنسي مسلم إلى القتال في سوريا. وخلافاً لروا، فإن تومسون يرصد بعداً طوباوياً في جاذبية «داعش»؛ فـ«دولة الخلافة» في الرقة هي بالنسبة إلى بعض أبناء المهاجرين من شمال أفريقيا، مكانٌ يَعد بالكرامة وبوضعٍ مادي واعتباري لا يتمتعون به في فرنسا. ومثلما يقول أحد محاوري تومسون، فإن ذكرى عمليات النهب في عهد الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ما زالت عميقة؛ و«لهذا، فإن فرنسا تمثل أحد الأهداف الرئيسية للمتطرفين». واللافت أن النساء اللاتي يستجوبهن تومسون لسن أقل تشدداً من نظرائهن الرجال، إذ يبدين كراهية كبيرة للدولة الفرنسية وكل ما تقوم به. ومنهن «لينا»، التي تصف قتل بعض أعضاء هيئة تحرير أسبوعية «شارلي إبدو» في يناير 2015 باعتباره «أحد أجمل أيام حياتها». محمد وقيف الكتاب: العائدون المؤلف: دافيد تومسون الناشر: سُوي تاريخ النشر: 2016