استيقظ أكثر من نصف الناخبين الأميركيين تقريباً، ممن صوتوا لصالح هيلاري كلينتون أو مرشحين من أحزاب أخرى صغيرة، في الصباح التالي ليجدوا أنفسهم في دولة لا تبدو غير مألوفة فحسب، ولكنها أيضاً مقلوبة رأساً على عقب. فالشعبويون يؤيدون مليارديراً شهيراً، والإنجيليون يرحبون بمنظم مسابقات ملكات الجمال، والمحافظون يقبلون بانتهازي أيديولوجيته هي الالتزام تجاه نفسه. أما «النخبة في الحزب الجمهوري» فتبدو عاجزة أمام اختطاف الحزب، وتبرهن وسائل الإعلام المعروفة عدم فاعليتها في مواجهة مدّ الأخبار الزائفة، ويؤكد النظام السياسي ضعفه أمام مكائد حكومة أجنبية، وتصبح التحالفات العالمية القائمة منذ أمد بعيد موضع شك، ويضرب بالمبادئ السياسية العتيدة عرض الحائط. وبعدئذ تخسر المرشحة الحاصلة على أعلى أصوات في التصويت الشعبي. ومثلما قال «كارل ماركس»، في سياق مختلف، فإن «كل ما هو صلب يذوب في الهواء!». وربما يكون الهواء السياسي مضطرباً، لكن الجذور التكتونية للدولة الأميركية راسخة. وبالنسبة إلى هؤلاء الذين يشعرون بالحيرة، وكذلك بالنسبة إلى من يشعرون بالانتصار، قد يكون من الضروري قراءة كتاب «روبرت كابلان» الجديد «استحقاقات جبال الروكيز.. كيف تحدد الجغرافيا دور أميركا في العالم»، لا سيما أنه يعيد تسليط الضوء على دعائم الدولة الأميركية. لذلك فاستيعابه بشكل كامل قد يستغرق وقتاً كبيراً. وفي كل صفحة، يقدم «كابلان» رؤية جديدة، ويقدم لمحة خاطفة، ويتناول الحقيقة بالتدقيق. ولفهم الدولة الأميركية، يتصور «كابلان» أنه ينبغي الوصول إلى جبال «الروكيز» عبر اليابسة مثلما فعل الآباء المؤسسون، قائلاً: «إن السفر إلى كاليفورنيا بالطائرة ومن ثم إعادة ضبط الساعة حسب التوقيت المحلي، لا يجعل المرء يدرك الأرض التي مر بها، لأنه لم ير أوقات الصباح والمساء على طول الطريق». و«كابلان» أحد أبرز الكتاب الأميركيين في الشؤون الخارجية، وكثيرون يتذكرون كتابه «الفوضى المقبلة»، الذي يبدو تبصراً دقيقياً بما يحدث حالياً. وقد جاب المؤلف الذي كان رحّالة في شبابه قبل أن يصبح صحفياً، الولايات المتحدة. والآن، في ضوء حيرته بتحول أميركا ضد النظام العالمي الذي بناه الأميركيون، يكرر رحلته، بحثاً «عن إجابات في الداخل للمعضلات التي تواجهها الولايات المتحدة في الخارج». ويعود المؤلف بكتابه الجديد، بسرد قصة رحلته المسلية، لكن بكلمات اختارها بحذر، ليقدم الأسس الجغرافية والجيوسياسية للولايات المتحدة ويعيدها إلى المشهد. ويبدأ في الشرق، حيث ينصت للمحادثات في المناطق الريفية وفي المقاهي، مؤكداً أن هناك دولتين وليست واحدة. قبل أن يمضي إلى غرب فيرجينيا، حيث قطاع الفحم، ليجد حالة من الانهيار الصادم، وبعد أن يعبر الجسر إلى أوهايو، يجد ازدهاراً تعززه تكنولوجيا التكسير الهيدرولوكي المستخدمة في استخراج الغاز الصخري. وعند الذهاب إلى «بلومينجتون»، مقر جامعة «إنديانا»، يكتشف «حضارة عالمية حقيقية»، تزينها أميال من المطاعم الغالية وسبل الراحة والترفيه. وما يستنبطه «كابلان» على طول الطريق، أنه رغم التغييرات المضطربة المحيطة بالأميركيين، فإن الولايات المتحدة كانت وستظل نتاج «جغرافيا استثنائية». ويقول: «إن النعم الجغرافية التي تحظى بها الولايات المتحدة جعلت من الممكن أن تصبح قوة عالمية، وبهذه القوة طورت التزامات راسخة، تحافظ عليها استناداً إلى ديناميكيتها الاقتصادية والاجتماعية المستمرة»، مضيفاً: «إن قدرنا هو القيادة بسبب مجموعة من الأسباب، من الجغرافيا إلى الثقافة.. ولا توجد دولة أخرى يمكنها لعب الدور ذاته!». وبينما تجتث العولمة الاقتصادات والمفاهيم المحلية، وتولد ثورة الاتصالات هويات أيديولوجية وقبلية جديدة، وكل شيء «من التطرف الإرهابي إلى اليمين المتطرف»، يؤكد كابلان: «إنه ليس صراع حضارات راسخة بقدر ما هو صراع حضارات يُعاد بناؤها بطريقة مصطنعة». وأضاف: «في نهاية المطاف، إن العولمة، التي هي نتاج التأثير الأميركي، وحصن ضد الفوضى، تقوض النفوذ الأميركي وتنتج عراقيل جديدة، ورغم قوتها العسكرية والاقتصادية التي لا تضاهى، لا تستطيع الولايات المتحدة حالياً بسط الأمن في العالم، وأفضل ما يمكن أن نأمل فيه هو تقليل الاضطرابات». وألّف «كابلان» الكتاب قبل انتخابات الرئاسة الأميركية، ولم يأتِ على ذكر ترامب سوى مرات قليلة، بيد أن هناك إطلالات كثيرة على ما يحدث في عصر ترامب. فالرئيس ترامب ربما يحاول تجاهل متناقضات الجغرافيا والعولمة، لكنه لا يستطيع الفرار منها. وعلى المدى الطويل، يذكرنا «كابلان» بأن شكل النهر يقيد مسار الربان! وائل بدران الكتاب: كيف تشكل الجغرافيا دور أميركا في العالم؟ المؤلف: روبرت كابلان الناشر: راندوم هاوس تاريخ النشر: 2017