تحمل هذه الحالة من مظاهر الفوضى والارتباك، والتي ميزت الأيام الأولى لإدارة ترامب، في طياتها أخطاراً جسيمة على نظام الحوكمة والسياسة الخارجية والأسواق المالية العالمية. وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى ثلاثة عوامل أساسية. أولها أن الرئيس ترامب ذاته يتصرف وكأنه يواصل عمله في الحملة الانتخابية، وهذا ما يجعله يبدو وكأنه رجل غير منتبه لأفعاله، فضلاً عن أنه يواصل التغريد على موقع «تويتر» وبأسلوب ينزع نحو الإثارة ويجعل حتى أقرب مستشاريه في حالة من الشك وعدم اليقين فيما يتعلق برغباته ومعتقداته. ونستنتج من ذلك أن ترامب يعتمد لدرجة مبالغ فيها على مجموعة صغيرة من المستشارين الملازمين له باستمرار في البيت الأبيض، وهم الذين يبدو أنهم دائمو الاختلاف فيما بينهم حول كل القضايا باستثناء ما يتداولونه فيما بينهم من مشاعر الغضب ومواقف الازدراء من الصحافة السيّارة. وكان لهجومهم المتواصل على الصحافة نتائجه المتوقعة، ومنها تركيز الصحفيين على أعمالهم وتصريحاتهم ونبش القصص والروايات السلبية التي تسيء إليهم. وتتمثل المشكلة الثانية في أنه ما من واحدة من الوكالات المهمة للسلطة التنفيذية مكتملة التشكيل بالموظفين وطواقم الخبراء حتى الآن. والقليل فحسب من الوزراء أقسموا اليمين ودخلوا مكاتبهم، ومنهم وزراء الخارجية والدفاع والأمن الوطني. لكن المرشحين لمناصب أخرى مثل الخزانة، والادعاء العام، والخدمات الصحية والإنسانية.. لم يتم البت برلمانياً في تعيينهم حتى الآن. وإلى أن يتم اختيار الأشخاص الذين سيشغلون هذه المناصب، لا يمكن تعيين نواب الوزراء ومساعديهم، ولهذا السبب فلن تكون هناك إلا قدرة ضعيفة للوكالات الحكومية على العمل بشكل مسؤول ولعب الدور الصحيح المنوط بها في مجال التوظيف وتنفيذ التوجيهات الصادرة عن البيت الأبيض. وتكمن المشكلة الثالثة في تسرع الإدارة في محاولة إظهار التأييد الذي تلقاه في واشنطن منذ اليوم الأول لتسلمها السلطة، فقامت الحلقة الضيقة المقربة من ترامب بإصدار سلسلة من الأوامر التنفيذية التي يمكن أن يقال عنها إنها، رغم تقيّدها التام بالقوانين النافذة وتطابقها مع دستور الولايات المتحدة، كانت تحتاج إلى إعادة قراءة وتدقيق قبل إصدارها من أجل تصحيح اللغة واللهجة، وحتى لا تتسبب في ردات فعل سياسية، وخاصة في أروقة الحكومات الأجنبية. وربما يكون أفضل مثال لهذه القرارات المتعجلة هو الأمر الذي صدر يوم 27 يناير والذي يتعلق بالهجرة واللجوء وخاصة حظر دخول المسافرين إلى الولايات المتحدة من سبع دول إسلامية. وتقول الإدارة إن ذلك كان ضرورياً لمنع تسلل الإرهابيين المحتملين ضمن أفواج السياح القادمين إلى الولايات المتحدة، وقيامهم بعد ذلك بأعمال إرهابية ضد المواطنين أو المؤسسات الأميركية. ومن بين تلك الدول، العراق الذي يمثل الحليف المقرب من الولايات المتحدة والذي تعمل قواته جنباً إلى جنب القوات الأميركية وبعض الدول الأخرى بما فيها إيران، لتحرير مدينة الموصل وطرد فلول تنظيم «داعش» منها. والآن، وبعد أن أصبح الجانب الشرقي من المدينة في أيدي الحكومة العراقية، فالمهمة الخطرة لعبور نهر دجلة من أجل السيطرة على الجانب الغربي بلغت حالتها الحرجة. وبات من الواضح أنه لو طلب من المستشارين التنفيذيين لترامب، وخاصة أولئك المعنيين بقضايا الأمن الوطني، مراجعة الأمر التنفيذي المتعلق بالهجرة، فمن المؤكد أنهم سوف يسقطون اسم العراق من قائمة الدول السبع المذكورة. لكن، وفي إطار تسرّع الإدارة بإصدار هذا الأمر التنفيذي حتى تظهر للمواطنين مدى «صرامتها في التصدي للإرهاب» و«الحفاظ على أميركا آمنة»، كتب له أن يواجه كثيراً من التحدي من المحاكم الأميركية المتخصصة، فيما قوبل بكثير من الاحتجاج عالمياً حتى من قبل أقرب حلفاء الولايات المتحدة، وخلق جوّاً من المرارة في أوساط العراقيين الذين ساعدوا الأميركيين في غزو بلادهم عام 2003 لقاء تقديم الوعود إليهم بالحصول على تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة مقابل خدماتهم. وبعض الدول الأخرى الواردة في القائمة، وخاصة إيران، اتخذت إجراءات انتقامية وأصدرت أمراً بمنع منح التأشيرات للأميركيين الراغبين في زيارة إيران من أجل العمل والاستثمار أو في إطار اللقاءات العائلية أو حتى لغرض الزيارة. وعلى الجبهة الوطنية، أصدر ترامب سلسلة من الأوامر التنفيذية التي ستلقى الترحيب في أوساط صناعة النفط ومشتقاته لو نفذت، لأنها ستزيل العقبات التي وضعت أمامها منذ أزمة 2008 المالية. وجاءت بعض أهم تلك الأوامر المتعلقة بتنظيم العمل في «وول ستريت» معاكساً تماماً لما وعد به ترامب خلال حملته الانتخابية فيما يتعلق بتنظيم أسواق المال والشركات الكبرى. وحتى الآن، يبدو وكأن المؤسسات المالية هي الجهة الرابحة الكبرى من وصول إدارة ترامب، وليس «ذوي اللياقات الزرقاء» أو العمال الكادحين الذين كانوا يعتقدون أن ترامب هو الرجل الذي سيقف إلى جانبهم ويحل مشاكلهم.