ترامب في قراراته التنفيذية أهاج العالم وليس المسلمين فقط، تهييج قراراته في الداخل الأميركي كان أكبر وقعاً من الخارج وهو مؤشر قوي على قوة الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي لدى الشعب الأميركي وهو الأهم في معادلة الحكومات المنتخبة من قبل الشعوب. ترامب من حسناته الرئاسية أنه استطاع أن يستخرج من شعبه أفضل ما فيه وهو ما كان خافياً على معظم متابعي الشعب الأميركي المتميز بذلك من بين الشعوب الأوروبية الأخرى. لأنه شعب راقٍ من الأصل لم يُصب بلوثة الدم الأزرق ولا بأي لون آخر، سوى اللون الأميركي الواحد، الدم الذي يجري اليوم في عروق الأميركيين بمختلف تنوعاتهم الثقافية والعرقية والدينية وكذلك السياسية والفكرية. فلنذهب إلى العمق الأميركي في الشعب الذي ما زال في حالة تظاهر ورفض لهذه القرارات وقد أيَّد كل من الرئيس السابق أوباما الذي خرج عن صمته كما وعد في آخر لحظة من ولايته ودعا الشعب إلى الاستمرار في التظاهر ومعه كيري وزير خارجيته السابق، هذا الحراك العميق الذي سماه البعض «الربيع الأميركي»، أو «أميركا جديدة» تبنَّى من باطن قرارات ترامب الأخيرة في كل المجالات وليس في ما يتعلق بالمهاجرين فقط. وإذا انتقلنا من العمق إلى القمة، فإن تقديم 900 من كبار الموظفين في وزارة الخارجية، عريضةَ اعتراضٍ على هذه القرارات، مؤشر صحي على أن في هذا الجهاز الحكومي حياة أخرى وإن كانت حكومية محضة، وينسى البعض أن هذه الوزارة أنشأت منذ فترة قناة خاصة غير رسمية بمعنى أن الموظف لا يتضرر لو أبدى تحفظاته على قرارات الوزارة التي يعتاش منها، للحفاظ على قدسية الرأي الآخر، وإن كان مخالفاً لسياسة المكان الذي ينتمي إليه، ما دامت رائحة المصلحة العليا لأميركا الوطن هي الفواحة. تدخُّل القضاء في قرارات ترامب يعني أن الرئيس في أميركا ليس مطلق الصلاحية في إدارة شؤون الدولة، فهو واحد فقط وليس كل أحد، وهذا الفرق الجوهري هو الذي يحمي الشعوب من نمو الديكتاتوريات بكل ماركاتها العالمية وأخطرها جميعاً ما كان في لباس الديمقراطية التي تُظهر زيفَها عند أول ممارسة واقعية لأي قرار سيادي يُتخَذ على أرض الواقع. علو كعب الدستور والقانون عندما اتخذ ترامب أسلوب العالم الثالث في موجة الإقالات التي استحدثها ابتداءً من وزيرة العدل لأنها رأت الظلم واضحاً في قرارات رئيسها في العمل فلم تتوانَ عن الصدع بالحق في اتباع الرئيس أولاً للدستور والقانون وإلا الشعب الواعي والراشد له بالمرصاد، كذلك عبر القنوات السياسية التي قامت عليها أميركا منذ قرون دون الحاجة إلى «ربيع عربي» هناك ولا انقلاب ولا التهديد بالقتل أو الاغتيال السياسي، وهذه أساسيات بقاء الحضارة الأميركية حتى الساعة في القمة على مستوى العالم كله. تُرى ما الذي فعّل دور الشعب في المرحلة «الترامبية» بالصور التي عرضها الإعلام الأميركي الحر غير المقيد بالقوانين المعروفة في العالم الثالث؟ هذا التفعيل هو نتاج مناهج التربية والتعليم التي تُدرس للطفل الأميركي منذ نعومة أظفاره ونمو أفكاره منهج «السياسي الصغير» الذي يعرف ما له وما عليه منذ النشأة الأولى، لذا لم يقع انقلاب واحد في أميركا على الحكم منذ نشأت أميركا الأولى إلى حين ساعة ترامب، وما يشاع من أدبيات هذه الأيام عن انقلاب أو «ربيع عربي» قادم إلى أميركا لا محالة، لا يعد غير إشاعات سياسية مغرضة من شريحة تحب وتجيد ممارسة الفوضى التي لا تبني حضارة ولا تُنبت زرعاً ولا تنشئ صناعة. فأميركا في عهد ترامب أو في عهد سابقه لا تزال عظيمة وتقدم للإنسانية أفضل ما عندها، لعل العالم العربي والإسلامي يعي الدرس الأميركي قبل فوات الأوان ويعيد حساباته في كل مناحي الحياة قبل أن «ينهش» هذا الربيع المدمر بقية الخير في أمة العرب والإسلام قاطبة.