الآن وقد دخل دونالد ترامب البيت الأبيض وأصبح رئيساً لأقوى دولة في العالم، يتساءل المهاجرون في الولايات المتحدة، وإليها، عن المصير الذي ينتظرهم. علماً بأن والدة ترامب هي مهاجرة من اسكتلندا، وزوجته الحالية مهاجرة أيضاً من سلوفينيا. وفي الأساس ليست الهجرة مشكلة أميركية. فأميركا قامت على الهجرة. المشكلة في أميركا تكمن في العنصرية التي انتعشت من جديد، سواء ضد السود أو المكسيكيين.. وبصورة خاصة ضد المسلمين. فالهجرة في حد ذاتها قضية إنسانية عالمية وليست أميركية، ولا حتى أوروبية. ففي الهند مثلاً يوجد مهاجرون من بنغلاديش المجاورة لها أكثر مما يوجد من مهاجرين مكسيكيين في الولايات المتحدة. ويبلغ عدد هؤلاء المهاجرين البنغلادشيين غير الشرعيين إلى الهند 20 مليوناً، أي ما يعادل خمس مرات عدد سكان لبنان. ويبلغ حجم تحويلاتهم المالية سنوياً 4,5 مليار دولار. وتعتبر هذه التحويلات شريان الحياة للاقتصاد البنغلاديشي. ولذلك يعتبر «ممر الهجرة» من بنغلاديش إلى الهند الأوسع في العالم كله. والحدود بين الدولتين (اللتين كانتا دولة واحدة حتى عام 1947) يبلغ طولها 4100 كيلومتر، وهي أطول من الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة التي يريد الرئيس ترامب -بل تعهد علناً- بإقامة جدار فاصل على طولها لمنع الهجرة، ولتحميل المكسيك نفقات بنائه. وفي باكستان يوجد مهاجرون من أفغانستان منذ السبعينيات من القرن الماضي يقدر عددهم بمئات الآلاف. وتحاول باكستان جاهدة دفعهم إلى ما وراء الحدود، رغم أنهم من جنس واحد، ومن دين واحد. وحتى دولة جنوب السودان، بعد انفصالها عن السودان، تضغط الآن على الشركات الأجنبية للتخلص من اليد العاملة الأجنبية -الإفريقية- غير أن هذه الشركات، وحتى المؤسسات الخيرية الدولية، أعلنت أنها لا تستطيع أن تعمل من دون هؤلاء المهاجرين «الأجانب» الذين تتوفر لديهم خبرات مفقودة لدى المواطنين السودانيين الجنوبيين. وكانت أوغندا وكينيا قد واجهتا مثل هذه المشكلة أيضاً على نطاق أوسع عندما أبعدت الدولتان بالقوة المهاجرين من الدول الآسيوية في السبعينيات من القرن الماضي، وأدى ذلك إلى تدهور اقتصاداتهما، وإلى انهيار المستويات الاجتماعية، وحتى إلى تعثر الأداء الحكومي. وقسمت الأمم المتحدة الهجرة إلى أربعة أنواع: النوع الأول، الهجرة من الدول الفقيرة -النامية- إلى الدول الغنية المتطورة. ويقدر عدد مهاجري هذا النوع بنحو 120 مليون شخص. والنوع الثاني هو الهجرة بين الدول الفقيرة ذاتها، وفي تقدير البنك الدولي أن عدد المهاجرين هنا يفوق عدد المهاجرين إلى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاً. وعلى سبيل المثال فعدد المهاجرين من بوركينا فاسو وحدها، وهي دولة أفريقية فقيرة، إلى ساحل العاج، وهي دولة أفريقية مجاورة ولكن أقل فقراً، يبلغ 1,5 مليون شخص! أي أن نسبة هؤلاء المهاجرين هي أعلى كثيراً من نسبة المهاجرين الهنود إلى بريطانيا، أو حتى من نسبة المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا. ويقدّر البنك الدولي حجم التحويلات المالية من ساحل العاج إلى بوركينا فاسو بنحو 343 مليون دولار في العام. وقد يبدو هذا الرقم زهيداً. إلا أنه في حسابات اقتصاد دولة فقيرة جداً مثل بوركينا فاسو، فإن هذا الدخل ينعش الاقتصاد الوطني وينقذه من الانهيار. وفي النوع الثالث يتحكم في سياسة الهجرة عاملان: الأول هو ارتفاع الدخل في الدول الغنية (أو في الدول الأقل فقراً)، وانخفاض معدلات الإنجاب. والعامل الثاني، على العكس من ذلك، هو ارتفاع معدلات الإنجاب في الدول الفقيرة وانخفاض الدخل. وكانت معادلة هذين العاملين وراء الهجرة من أميركا الجنوبية إلى أميركا الشمالية. وهو ما يزعج الإدارة الأميركية الجديدة. وفي تقديرات البنك الدولي فإن هذه المعادلة ستفرض ذاتها في مناطق أخرى من العالم. واستناداً إلى دراسات البنك، فإن كلاً من الصين والهند، وحتى معظم دول أميركا الجنوبية بما في ذلك المكسيك، ستتحول إلى دول منخفضة الإنجاب.. وبالتالي ستكون بحاجة إلى أيدٍ عاملة لا تتوفر إلا بالهجرة. وفي المقابل، واستناداً إلى الدراسة ذاتها، فإن دول جنوب الصحراء الأفريقية ستزداد فقراً وإنجاباً في الوقت ذاته. وتقول الدراسة إنه في عام 2040 فإن أكثر من ثلثي أطفال العالم تحت سن الـ14 عاماً، سيكونون في أفريقيا. وهذا يعني توقع تدفق موجات جديدة من المهاجرين عبر البحر المتوسط شمالاً إلى أوروبا، وحتى إلى الشرق الأوسط. أما النوع الرابع، فهو الهجرة من دول غنية إلى دول غنية أخرى في إطار انسجام عنصري أو ديني، أو الاثنين معاً (بين أوروبا والولايات المتحدة)، وبين شمال الصين (الزراعي) وجنوبها (الصناعي)، وهي هجرة غير مثيرة للاضطرابات، ولكنها خاضعة للطموحات الفردية في الدرجة الأولى. وتعيد هذه الهجرات رسم الخريطة الديموغرافية للعالم بالحسنى أحياناً.. وبقوة الأمر الواقع في أغلب الأحيان.