كثيرة هي توقعات الخبراء والمراقبين بشأن التطورات المحتملة في دور كل من روسيا وإيران في سوريا، بعد أن بدأت الخلافات بينهما في الظهور. ليست جديدة هذه الخلافات التي تناول كاتب السطور جانباً منها في المقال المنشور هنا في 4 يناير الماضي تحت عنوان «روسيا وإيران في سوريا». لكنها أصبحت أكثر وضوحاً منذ أن اتجهت روسيا إلى إعادة رسم ملامح سياستها عقب الحسم العسكري في شرق حلب، وقطع خطوات أسرع باتجاه التقارب مع تركيا. وكان مؤتمر الأستانا في 23 و24 يناير الماضي المسرح الذي ظهرت عليه الخلافات بين روسيا وإيران في أوضح صورها حتى الآن. وربما يكون توقع كل من الدولتين تنامي الخلافات بينهما في الفترة المقبلة وراء سعيهما للبدء في حجز حصص في «سوريا الجديدة» مبكراً، وكأنهما تستبقان تسوية قد تؤدي إلى تغيير في تركيب نظام الأسد حتى إذا بقي رأسه، الأمر الذي يجعل الحصول على ما تطمحان إليه صعباً أو أقل سهولة. ولعل هذا يفسر تحرك الدولتين في اتجاهين متوازيين خلال النصف الثاني من الشهر الماضي، لتوقيع اتفاقات اقتصادية وعسكرية مع نظام الأسد. وربما تكون هذه الاتفاقات دفعة أولى في استحقاقات يتعين على النظام تأديتها مقابل وقوف روسيا وإيران معه حين كان على وشك السقوط، وخوض معارك ضارية لتعويمه واستعادة سيطرته على مساحة لم يكن متصوراً قبل عامين أنه يستطيع استرجاعها، ثم إعادة تأهيله دولياً بعد تثبيته داخلياً. ويوحي سلوك روسيا وإيران الآن بأنهما تتعاملان مع الوضع في سوريا على أساس أنهما انتصرتا في حرب تحالفتا فيها، وجاء وقت التنافس على «غنائمها». ولأن هذه الحرب ليست تقليدية، يختلف مفهوم «الغنائم» فيها إذ تحصل كل من الدولتين عليها من حليفهما وليس من الأعداء الذين قاتلتا ضدهم، فضلاً عن أن هذه الغنائم توجد أساساً في المناطق الخاضعة لسيطرته. ويدل محتوى الاتفاقات المبرمة حتى الآن على أولويات كل من روسيا وإيران في هذا المجال. فقد وقَّع رئيس الوزراء السوري عماد خميس، خلال زيارته لطهران في 17 يناير الماضي، عدة اتفاقات اقتصادية. لكن إيران تستطيع الاستفادة منها لأغراض أبعد من الاستغلال الاقتصادي. فالاتفاق الذي حصلت بموجبه على امتياز إنشاء شبكة هاتف جوَّال يتيح لها عائدات مالية كبيرة ومضمونة، لكنه يمكّنها في الوقت نفسه من الحصول على معلومات تريدها عبر مراقبة اتصالات محلية ودولية. أما الاتفاق على منحها 5 آلاف هكتار لزراعتها، فيتيح فرصة لتوطين مقاتلين في الميليشيات التابعة لها وعائلاتهم عند التوصل إلى تسوية قد تتضمن إخراج هذه الميليشيات. وقل مثل ذلك عن اتفاق تشغيل مناجم الفوسفات في منطقة قريبة من مدينة تدمر، حيث سيكون بإمكانها توطين أعداد أخرى من المقاتلين التابعين لها بدعوى أنهم عمال في هذه المناجم. كما يسهل استخدام الميناء الذي حصلت على امتياز إنشائه لتصدير النفط بموجب اتفاق رابع، لأغراض أخرى مثل إدخال أسلحة أو مقاتلين. أما الاتفاق الذي وقعته روسيا مع نظام الأسد، ونشره موقع الوثائق الإلكترونية التابع للكرملين في 27 يناير الماضي، فيعبر عن المصلحة التي تحظى بأولوية قصوى لديها، وهي ضمان وجود قوي ومؤثر على ساحل البحر المتوسط. فقد ظل الوصول إلى «المياه الدافئة» هدفاً استراتيجياً للروس على مدى أكثر من ثلاثة قرون. ويمنح هذا الاتفاق موسكو حق الاستخدام المجاني لقاعدة طرطوس البحرية لمدة 49 سنة قابلة للتمديد تلقائياً، ويوَّفر حصانة كاملة لقواتها ومعداتها، ويُمكنها من نشر سفن حربية، بما في ذلك النووية منها. ويُعد هذا الاتفاق الثاني من نوعه، إذ سبقه في سبتمبر 2015 اتفاق أتاح لموسكو استخدام قاعدة حميميم الجوية التي صارت أهم مراكز الوجود العسكري والسياسي الروسي في سوريا الآن. وليست هذه إلا بداية توزيع «غنائم» الحرب بين الدولتين اللتين تتطلعان إلى أن يكون انخراطهما فيها نقطة تحول في دور كل منهما في منطقة الشرق الأوسط بوجه عام.