كانت خيبتنا بحجم الحلم المُضاع، بفعل معارضة الأمس وحكومة اليوم. مرت السُّنون ونحن ننتظر على أعتابها الرَّبيع، وها هي تطوي الرَّابعة عشرة، وهلالها ما زال محاقاً. لا أكتب ناعياً أو متأسفاً على نظام مهّد الأرض لهذه الكائنات، ولم يترك نافذة للأمل إلا وأوصدها، لكنَّ النَّدم على ترادف الخيبات. سخرنا من مقولات السابقين، ومن الألقاب التسعة والتسعين، من المغالاة في الغرور، والوهم بالانتصارات المتلاحقة، كل ذلك أوسعناه سخريةً في المقروء والمسموع، وما نضيف له، لإيقاظ الحماس في نفوسنا، إن صدْقاً وإن كذباً. لكنْ لم يطرأ على البال أن الحال سيأتي بما هو أشد وأفظع. كتب سليم الحسني، أحد الدُّعاة في «الدَّعوة الإسلامية» سابقاً، عن تجربته مع إبراهيم الجعفري أنه استُدعي للعمل معه، عند توليه رئاسة الوزراء (2005)، وإذا كان المطلوب تأليف كتاب أمجاد مع تحديد العنوان: «مَن هو الجعفري؟». لم يغر الحسني التكليف، فخيبته هو الآخر مضاعفة بزعامات الدعاة، فكتب كاشفاً عن التكليف «مَن هو الجعفري.. إسلاميو السلطة، الحلقة 17». أقول كم سخرنا من غرور السابقين، و«البعث الكافر»، حسب بيانات الدُّعاة، إلا أن جبروت، وخطف قادة «البعث» للسلطة بقوتهم، لم يدفعهم إلى تأليف الكتب عن ذواتهم في الدقائق الأولى مِن الولاية، فقد صدر بعد أحد عشر عاماً: «صدام حسين مناضلاً ومفكراً وإنساناً» (1980) لأمير إسكندر، ثم «صدام حسين.. السيرة الذاتية والحزبية» (1980) لفؤاد مطر. ذُهلت وأنا أطالع أغلفة كتب الجعفري الـ176 كتاباً، وأخرى كُتبت عنه، حسب ما ورد في موقعه عنها، وهي مجلدات ضخام: «حزام النَّار»، «تجربة الحكم»، «المخاض العراقي»، «خطاب الدَّولة» (أربعة أجزاء)، وقد وصلني الحزام والخطاب، وإذ أقرأ في مقدمة الأخير أن الرَّجل قُدمَ خطيباً للثورة والدولة معاً: «ما مِن حركة سياسية أو ثورة جماهيرية أو دولة قوية إلا ولها خطيب يتولى طرح أفكارها، وتحديد آلياتها لتحقيقها، ويُحذر مِن الأخطار المحدقة بها». إنه ادعاء يسترعي البكاء والضحك معاً، حالة مِن الهستيريا، فلا ثورة يُخطب لها ولا دولة يُعتد بها. ما كنا نحسب أن تغير الأوان يقلب الإنسان إلى هذا الحد من الخُيلاء، حتى يحسب كلَّ كلمة يتفوه بها على أنها حكمة، وفلسفة، ونظرية عالمية! يتخيل نفاق الحاشية والزائرين آراء لجان فكرية، تفسر له مقولة «المارد المعنوي» باستدلالات «ما بعد الظُّهور»، فهل رأيتم أخيب من خيبتنا؟! ذهب الأول وجاء الثاني، وإذا الخيبة تتعاظم والغرور يتحول إلى جنون، وليس أكثر وهماً من فقد الإنسان اتصاله بالواقع، فيرى الطير طائرة والنعامة زرافة، والصدى وحياً. بدأ جواد المالكي يقف وراء فؤاد معصوم، يحمل ملفاً، عندما كان أحد نوابه في الجمعية الوطنية الأولى، وسرعان ما يظهر أنه نوري المالكي، ويقص حكاية قلمه، كيف احتفظ به منذ (1979)، ولم يتخل عنه، لا الأمس ولا اليوم، ولما سأله الأصحاب بحي السيدة (1980) عن سر القلم، أجاب: «هذا القلم أوقع به إعدام صدام حسين»! والله تعالى قال على لسان نبيه: «قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» (الأنعام: 50). وفي هذا المجال أيضاً تواضع زهير بن أبي سلمى (نحو 609م): «وأعلمُ ما في اليومِ والأمسِ قَبلَهُ/ ولكنني عن عِلمِ ما في غَدٍ عَمِ» (المعلقات السَّبع بشرح الزَّوزني). أكثر من هذا الوهم، نفخ المالكي ذاته على من أنبت الريش في جناحيه، ليصبح رئيس وزراء ونائب رئيس جمهورية، ونجله يقود الجيش والشرطة (حادثة مشهورة)، قال وفضائية الدَّعوة «آفاق» تبث، أنه هدد الأميركان إذا لم يسلموا له «صدّام حسين» لإعدامه، فطلبوا منه مهلة صباح العيد، إلا أنه أصرَّ، وإلا فسيتحرك بقواته إلى السجن ويتصادم مع الجيش الأميركي ويأخذه منهم بالقوة. فلما سمع الأميركان ذلك، والكلام للمالكي حرفياً: «تراجعوا وبينهم قالوا: المالكي يسويه، بويه (من الأب) أعطوه له وخلصونا»، كأنه هدد سارق أبقار لا الجيش الأميركي! كان ذلك بوجود أكثر من مئة وخمسين ألف جندي أميركي الذين اجتاحوا العراق كاملاً، وكانوا يطاردون «القاعدة» ويحمون المالكي نفسه داخل الخضراء. دققوا في النموذجين الدعويين، ولكم حساب حجم الخيبة. الخيبة التي جعلت العراقي ساخراً بعمق، لينحت العبارة «نوري المالكي والقلم المحفوظ»! فما يتعلق بالغيب يخص اللوح المحفوظ وصرير القلم الربانيين لا غرور صاحبنا. يدفع هذا الغرور والتمادي في الخراب إلى استقبال ترامب لتغيير الحال، بحجم الحماسة التي استقبلت بها معارضة الأمس بوش الابن. وأعجبُ لوقاحة مَن يعد بوش ديموقراطياً وترامب إرهابياً!