مع كثرة الكتب عن سوريا، يحتل كتاب «الصراع من أجل سوريا» مكانة خاصة، لأنه يثبت بالأدلة أن أهمية سوريا تاريخياً في المنطقة العربية مثل رمانة الميزان. في الحقيقة هذا استخلاص رئيسي عن المنافسة على هذا البلد منذ أكثر من نصف قرن، كما قال مؤلفه باتريك سيل، الصحفي البارز لسنوات طويلة في صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية ذات التأثير القوي داخل وخارج بريطانيا. كما أن «سيل» نفسه من المراقبين المرموقين لسوريا والمنطقة العربية، وقد كانت زوجته سوريةً، بل كانت تنتمي إلى إحدى أكبر العائلات السورية. تأكدت مكانة سوريا في المنطقة العربية مراراً، فكانت الشريك الرئيسي مع مصر في حرب أكتوبر سنة 1973، والتي تعد أول إنجاز عسكري من جانب الدول العربية ضد إسرائيل. اشتركت أيضاً القوات السورية في حرب تحرير الكويت في سنة 1991. وأكثر من ذلك، نستطيع العودة إلى التاريخ لبيان تأثير الكتاب السوريين في مفهوم القومية العربية ذاتها، وإنشاء حزب «البعث» بوساطة السوريين، من أمثال ميشيل عفلق أو صلاح البيطار، ثم كتابات المفكرين والكتاب المعاصرين مثل صادق جلال العظم الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي. وبسبب هذه المكانة السياسية والثقافية المتميزة، بالإضافة إلى الناحية الإنسانية بطبيعة الحال، يصبح استمرار الحرب الأهلية في هذا البلد مصدر حزن للقلوب كونه يرمز إلى تداعي المنطقة العربية بأسرها، لذلك وجب أن تتوقف هذه الحرب. لكن هل المؤتمر الأخير في أستانا -عاصمة كازاخستان- هو الحل؟ مسيرة الأزمة السورية والعنف المتزايد أثبتا نتيجتين مهمتين: 1- أنه على الرغم من الانتصارات العسكرية الأخيرة لنظام الحكم حول حلب، فإن حل الأزمة السورية لن يكون عسكرياً. 2- أن هذا الانتصار العسكري الجزئي جاء نتيجة للتدخل الأجنبي العسكري المباشر من جانب روسيا وإيران، بمعنى أن بقاء نظام بشار الأسد على قيد الحكم يرتبط بدفع فاتورة كبيرة لهؤلاء الحلفاء الخارجيين. والحقيقة تتجاوز هذا النفوذ الخارجي داخل سوريا ومسيرة الحرب فيها، ليؤسس مستقبل المنطقة العربية، كما يُبين لنا مؤتمر أستانا في الشهر الماضي. 1- جاء المؤتمر برعاية روسيا وإيران وتركيا، الدول التي اتفقت فجأة رغم الخلافات بينها ووقوفها بجانب أطراف متعارضة ومتحاربة! 2- انضم إلى المؤتمر ستيفان دي ميستورا، ممثل الأمم المتحدة الخاص بسوريا، ولا نعرف ما إذا كان مؤتمر أستانا سيحل محل آلية جنيف، أي المقر الأوروبي للأمم المتحدة. 3- رغم أن مؤتمر الأستانا وضع، وجهاً لوجه، المعارضةَ والحكومةَ حول مائدة المفاوضات، فإن هذه المعارضة مجزأة ومنقسمة على نفسها، وقد ظهر ضعفها أكثر فأكثر بعد المعارك العنيفة حول حلب. 4- جاء مؤتمر الأستانا ليُظهر تهميش الولايات المتحدة أكثر فأكثر في الأزمة السورية، فقد جاءت دعوتها شكلية ومتأخرة، بعد أن تم حسم كثير من الموضوعات السياسية والتنظيمية، ولم يبقَ أمام واشنطن إلا أن تكون مراقباً عن طريق سفيرها في كازاخستان. لم ترسل واشنطن أي تمثيل خاص. 5- ولعل الاستخلاص الأهم هو أن وضعنا أسوأ من واشنطن، بسبب الغياب العربي الكامل كأن سوريا لا تخص إلا روسيا وتركيا وإيران، وهي دول غير عربية. لذلك ينبغي أن نطلق على الأستانا «سايكس- بيكو» الثانية، وبعد أكثر من قرن من الزمان، كأن العرب لم يتطوروا ويحصلوا على الاستقلال خلال المئة عام الماضية، بل إن الأستانا قد تكون أسوأ من «سايكس- بيكو» الأولى (1916)، التي جرت في السر والخفاء، بينما تم الإعلان عن الأستانا قبل حدوثها ثم استمر الإعلام في متابعة أحداثها. ومع ذلك لم تحتج أيٌّ من الدول العربية على هذا الإقصاء في شأن يتعلق بها في المقام الأول، ولم تحرك جامعة الدول العربية ساكناً ولو بالتعليق! ألا يحتاج هذا الإقصاء إلى تفسير وشرح من المؤسسات العربية؟!