اشتعل الصراع المجمد في منطقة شرق أوكرانيا مجدداً، لأن حكومتي موسكو وكييف، مهتمتان بتصعيد الوضع لتحقيق أهدافهما السياسية في عالم تعرض للاهتزاز، بسبب نهج ترامب في إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. خلال الأسبوع الماضي، اندلع قتال قرب منطقة «أفدييفكا» الخاضعة للحكومة الأوكرانية، ومنطقة «ياسينوفاتا» الخاضعة للانفصاليين المدعومين روسياً، مما أدى لانقطاع التيار الكهربائي عن «أفدييفكا»، وخلق كارثة إنسانية بسبب البرد القارس هناك حالياً. والرواية الروسية عن أسباب اندلاع القتال مجدداً، هي أن القوات الأوكرانية حاولت احتلال منطقة محايدة على امتداد الخط الفاصل. أما الرواية الأوكرانية فهي أن الموالين لروسيا هاجموا منطقة تسيطر عليها قوات الحكومة. وجاء في تقرير منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، التي تراقب اتفاق «مينسك» لوقف إطلاق النار، أن الجانبين خرقا الاتفاق. وعلى ما يبدو فإن ذلك الخرق يفيد الجانبين معاً من الناحية السياسية. فروسيا تريد رؤية رد الفعل الأميركي والأوروبي، وإذا ما تبين أنه رد ضعيف تقوم باستفزاز الرئيس الأوكراني «بيترو بوروشينكو» ودفعه للقيام بعمل عسكري متهور. وعندما تحدث بوتين مع ترامب هاتفياً، يوم الجمعة الماضي، كانت رواية الطرفين للمحادثة مختلفة. فالطرف الروسي قال إن الرئيسين «ناقشا الجوانب الرئيسية للأزمة الأوكرانية»، أما الطرف الأميركي فلم يذكر شيئاً عن أوكرانيا البتة. ويرى الخبراء أن ما حدث في أوكرانيا مؤخراً، لم يكن اندفاعاً عسكرياً روسياً في الأراضي الأوكرانية، لأن التقارير الواردة من المنطقة لا تشير إلى وجود كثيف للقوات الروسية. وعلى ما يبدو فكل ما أرادته روسيا هو تهديد أوكرانيا بالانتقام، وهو ما كان واضحاً من بيان الخارجية الروسية، والذي حرص على تذكير كييف «كيف انتهت مثل هذه المغامرات بالنسبة لهم في الماضي». ولم يكتف البيان الروسي بذلك، بل اتهم «بوروشينكو» بالتسبب في تصعيد الموقف لإبقاء الأزمة الأوكرانية «على الأجندة الدولية». والاستراتيجية التي يتبعها بوروشينكو منذ زمن طويل، هي إظهار بلاده بمظهر حائط الصد للغرب ضد روسيا البوتينية. وقد ساعدته تلك الاستراتيجية على نيل دعم مالي من الغرب، رغم الإيقاع البطيء للتقدم في مجال الإصلاحات في بلاده، واستمرار تفشي الفساد. ويعتقد الرئيس الأوكراني أن هذه الاستراتيجية، قد ساعدت على احتواء تقدم القوات الروسية في شرق أوكرانيا. ففي مقابلة أجراها الخميس الماضي مع صحيفة تصدر في برلين أثناء زيارته لألمانيا، أعلن الرئيس الأوكراني نيته إجراء استفتاء على عضوية بلاده في «الناتو»، رغم أن الناتو لم يظهر أي رغبة في إدماج أوكرانيا. ونشرت صحيفة ألمانية أخرى تصريحاً نقلته عن مصادر في الحكومة الألمانية جاء فيه أن «الرئيس الأوكراني يرغب في عمل أي شيء لمنع رفع العقوبات الغربية المفروضة على روسيا». لكن بالنسبة لبوتين هناك هدف أهم بكثير من رفع العقوبات، وهو تنصيب حكومة موالية لموسكو في أوكرانيا. وهذا الهدف لا يتحقق، كما يرى، من خلال ضربة أولى قاصمة، ما جعله يمتنع عن توجيه مثل هذه الضربة، مما سمح لأوكرانيا ببناء قوتها العسكرية. فمن دون دعم شعبي (غالبية الأوكرانيين مناوئون لروسيا) فإن أي مكاسب عسكرية ستكون مكلفة، وغير قابلة للاستدامة. وإذا ما تمكن بوتين من استفزاز بوروشينكو، ودفعه للتحرك أولاً، وتأكد من لا مبالاة الولايات المتحدة بالأمر، وأن أوروبا المهمومة بمشاكلها والتي أرهقتها المشكلة الأوكرانية، لن تتدخل، فسيكون بمقدوره توجيه ضربة قاتلة لحكومة بوروشينكو. وإذا ما أخذنا في اعتبارنا أن بوروشينكو لا يتمتع بشعبية، فسندرك أن قيام روسيا بهجوم صاعق- لا يتحول إلى احتلال ممتد- يمكن أن يغير الميزان السياسي الأوكراني. وحالياً ينتظر بوتين أن يقدم الرئيس الأوكراني على الذهاب بعيداً في محاولته اجتذاب الدعم الغربي. لهذا يجد بوروشينكو، الذي بات رهينة لمزاج شعبي ساعد هو على خلقه، والذي يرفض أي تسوية مع بوتين، أنه ليس أمامه سوى السير على حبل مشدود حتى يتمكن من تجنب كارثة محققة. ليونيد بيرشيدسكي محلل سياسي روسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرغ نيوز سيرفس»