في اللحظة التاريخية الراهنة التي تواجه فيها الدبلوماسية الدولية مصاعب كبيرة في إيجاد أجوبة واستجابات على الأسئلة والتحديات المطروحة على عالمنا وأمننا الجماعي الإنساني اليوم، وفي وقت تتضارب فيه المصالح الوطنية والإقليمية على صعيد عالمي، يأتي كتاب رئيس الوزراء والشاعر والمفكر الفرنسي دومينيك دوفيلبان، الصادر في آخر العام الماضي، تحت عنوان: «ذاكرة سلام لزمن الحرب»، ليقدم رؤية عميقة، ومقاربة واسعة، لتشخيص مشكلات المشهد الدولي الراهن، بصراعاته ونزاعاته وأزماته ومشكلاته المزمنة والطارئة على امتداد القارات الخمس، مع تشخيص دقيق لأوجه الاختناق والخلل في بنية النظام الدولي نفسه، واقتراح مخارج ممكنة، من كل النزاعات والأزمات، وحلول سياسية ودبلوماسية كفيلة تحقيق السلام والمساكنة، والشراكة، بين مختلف دول وأمم العالم الراهن، وتحت قواعد لعبة الشرعية الدولية. ولعل مما يزيد من قيمة هذا الكتاب حقاً أن مؤلفه دوفيلبان يتمتع بصدقية كبيرة كرئيس وزراء ووزير خارجية سابق، كانت له صولات وجولات مشهودة في المحافل السياسية والدبلوماسية الدولية، خاصة في الفترة التي قاد فيها الدبلوماسية الفرنسية، هذا فضلاً عن كونه أيضاً مفكراً واسع الخبرة، وشاعراً مرهف اللغة، وشديد الحساسية للهموم الإنسانية، بصفة عامة. وبين دفتي هذا الكتاب، الواقع في 672 صفحة، يقارب دوفيلبان الأزمات الدولية التي ظلت ضاغطة طيلة العقود الأخيرة من الزمن، مبرزاً ما يراه وسائل وآليات ضرورية في التعامل معها، ليس فقط على وجه سياسة إدارة الأزمات، وإنما أيضاً على وجه الخصوص لإيجاد حلول حقيقية ونهائية لها، على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية، بعيداً عن الاستغراق في أوهام عدم القدرة على ذلك، فلكل أزمة في عالمنا اليوم أسباب، ولها أيضاً حلول ممكنة، إن توافرت الإرادة والرغبة في تسويتها وتصفيتها وطي صفحتها بشكل حاسم. وقد فتح انتهاء فترة الحرب الباردة، قبل قرابة عقدين ونصف العقد، إمكانات تسوية نزاعات كثيرة، لم يعرف النظام الدولي كيف يستغلها ويحولها إلى فرص سلام دائم، في كثير من بؤر التوتر والنزاع الدولية. ويدعو دوفيلبان في كتابه إلى العودة إلى الاقتناع بجدوى العمل السياسي الدولي، مستعرضاً أوجه الفشل في مواجهة عدد لا نهاية له من النزاعات الدولية الراهنة، وتشخيص كثير من أسباب فشل العمل الدولي المشترك الآن، وموانع تكريس السلام والاستقرار الذي هو جوهر وهدف العمل الدبلوماسي على صعيد عالمي. وفي هذا السياق يقول دوفيلبان إن العالم قد دخل منذ خمسة عشر عاماً في سباق مجنون إلى تأجيج الحروب. فقد دخل الشرق الأوسط، مثلاً، في دوامة انتحارية من الصراعات، وزاد تحدي الإرهاب الذي يتهددنا، ودخلت إمبراطوريات دولية عظمى في حالة مواجهة.. وقد زاد تفشي فيروس الحرب في النفوس، بسبب تفاقم المخاوف وصور الغضب. وزاد الاحتقان والاستقطاب الدولي، والتوتر النفسي الداخلي لدى شعوب الأمم الغربية، التي اعتادت تبني نوع من المركزية الذهنية الغربية، بدلاً من رؤية العالم بطريقة أكثر انفتاحاً وتعددية، وأكثر اعترافاً بالآخر. ولا يفوت دوفيلبان في استعراضه لحالة المشهد الدولي خلال فترة العقد ونصف العقد الماضية استدعاء أقوى مشهد له طيلة مسيرته السياسية والدبلوماسية، يوم نذر نفسه ليكون محامي السلام ومناهض الحرب في مجلس الأمن الدولي سنة 2003، عندما كان وزير خارجية في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، حين تولى مهمة المنافحة عن الحل السلمي في المسألة العراقية، ورفض بكل قوة الغزو الأميركي للعراق. وهنا في هذا الكتاب يبرز دوفيلبان أنه قد فعل ذلك يومها لاقتناعه العميق بخطورة رؤية المحافظين الجدد للعالم، ولمفاهيم السياسة والقوة، وخطأ قراءتهم لطبيعة العلاقات الدولية وأشكال الصلة بين الدول والأمم. وفي الأخير، يؤكد أن لديه قناعة راسخة بأن لبلاده، فرنسا، مهمة دولية وتاريخية كبيرة في العالم، هي التقريب بين المختلفين، والبحث عن الحلول السياسية لكل المشكلات، وبناء صور الشراكة كافة، والتعاون الدولي، بحكم موقع فرنسا الجغرافي، وتراثها الثقافي الإنساني، ودورها الجيوسياسي المؤثر على المسرح الدولي، في الماضي والحاضر والمستقبل حسن ولد المختار الكتاب: ذاكرة سلام لزمن الحرب المؤلف: دومينيك دوفيلبان الناشر: غراسيه تاريخ النشر: 2016