«صارت عَركه مصلاوية بين الديج والواويه». و«الديج» هو الديك بالعربية الفصحى و«الواوية» هي الثعالب. وكنتُ أداعب المهندسة المعمارية الراحلة «زهاء حديد» بهذا المثل البغدادي عن لهجة سكان الموصل، القريبة جداً من الفصحى. ومع أن «زهاء» كانت تأخذ على العراقيين جدِّيتهم في كل شيء، فهي تعترض بجد: «آني بغدادية ولدت وتربيت ببغداد». وكان رد فعلها الجدّي يغريني بذكْر أبيها «محمد حديد»، سليل إحدى أعرق عوائل الموصل، وأمها «وجيهة» سليلة المنحدرة من عائلة «الصابونجي» الموصلية التي تضاهي «حديد» عراقةً وثراءً. و«عركة مصلاوية» اندلعت أخيراً حول تَرِكة «زهاء» البالغة نحو 87 مليون دولار، وأوصت بنحو 50 مليون دولار منها للعاملين في مكتبها، وعددهم 372، و750 ألفاً لشريكها في المكتب المعماري الألماني «باتريك شوماخر»، ومليوني دولار لأبناء وبنات شقيقيها، و750 ألفاً لشقيقها الأكبر الوحيد على قيد الحياة «هيثم حديد»، وأوصت بجزء من تركتها للتعليم المعماري، دون ذكر التفاصيل. والسؤال هو: «هل للعراقيين نصيب في تركة زهاء»، وهي التي تقول عنها «رنا حديد»، ابنة أخيها، في مقال في «الأوبزرفر» البريطانية، إنها «تقف بقوة مع المضطهدين، وتؤمن بقوة التعليم»؟ ومَنْ أكثر تعرضاً للاضطهاد، والحرمان من التعليم، كأهل الموصل، وجامعتهم تواصل العمل منذ قدوم «داعش» في عام 2014 من مبانٍ مؤجرة خارج الموصل، في دهوك وكركوك وزاخو؟ لو أن زهاء كانت حية الآن، لاستجابت للعراقيين الذين بلغ ببعضهم الحنق على إهمالها لبلدها حدّ التساؤل: «هل كانت زهاء عراقية؟»، حسب عنوان مقال الروائية العراقية «إنعام كجه جي» عقب وفاة «زهاء» مباشرة. و«زهاء» التي لم تتوقف عن البكاء عند غزو العراق، ستسارع لإنشاء جامعتها المعمارية في الموصل، وهي تعرف أن اسمها وحده، يجلب ملايين الدولارات، وسيكون أكبر المساهمين عوائل الموصل الثرية، المعروفة، بالذكاء الاستثماري، ويذكر أسماء بعضهم «محمد حديد» في كتابه «مذكراتي»، ومنهم عوائل: «القدّو»، و«الجادر»، و«الدبّاغ»، و«زكريا»، و«جلميران»، و«شنشل»، و«الجومرد»، و«عبد النور»، و«سرسم»، و«اللوس»، و«يوسفاني». وستضم «جامعة زهاء حديد المعمارية» كراسي أكاديمية باسم أعمالها الكبرى عبر العالم، وأولها «جسر الشيخ زايد» بأبوظبي، و«أوبرا غوانشو» بالصين، و«مركز علييف الثقافي» في باكو بأذربيجان، و«جسر سرادق زراغوسا» بإسبانيا، و«مركز العلوم فاينو» في «ولفسبيرغ» بألمانيا. وسيتسابق أساطين العمارة العالمية، ومنهم أخلص أصدقائها، لإلقاء محاضرات، وتنظيم دورات، ليس فقط لأن الجامعة تحمل اسم «زهاء»، بل لأن الموصل هي «نينوى» حيث أقيمت أول مكتبة في التاريخ، عُثر فيها على أكثر من 20 ألف مدونة، وأنشئت فيها الثيران المجنحة الأسطورية، التي تزين متاحف عالمية عدة، ومنحوتة المرأة الساحرة الابتسامة «الموناليزا الآشورية» التي سُرقت واستُعيدت عند غزو العراق. وزهاء تدين بعبقريتها المعمارية لحضارات بلدها العظمي، وإن فات ذلك على النقاد العالميين، وهو محور دراستي «زهاء حديد عبقرية المكان» المنشورة بالعربية والإنجليزية والروسية. وإنشاء «جامعة زهاء حديد المعمارية» فرصة لتنظيم حملة عالمية للمطالبة بإعادة آثار تاريخية عراقية ثمينة سرقها المنقبون الغربيون على امتداد قرنين. ولن نجد في الفنون العالمية تعبيراً عن مأساة الموصل الحالية كمنحوتة «اللبوة الجريحة» المعروضة في «المتحف البريطاني»، والتي جعلت الباحث الآثاري الفرنسي «آندريه بارو» يولول قائلاً: «اللبوة المحتضرة التي اخترقت جسمها ثلاثة سهام، ما تزال تحتفظ بقوة كافية لترفع نفسها على قائمتيها الخلفيتين، تجررهما على الأرض، واضح أنها في الرمق الأخير، لكن أنيابها ظاهرة، فإذا كان عليها أن تموت فلْتَمُتْ كريمة». (كتاب «بلاد آشور»)