تبذل النخبة العربية المثقفة ما تستطيعه في تشخيص الأسباب والدوافع لثلاثي التطرّف والعنف والإرهاب، وتحاول أن تحدّد سبل مكافحتها على مستويات الفكر والتنمية بمختلف مجالاتها. ولكن الواقع المؤلم الذي يشهد سفكاً يومياً للدماء، وغضباً اجتماعياً عارماً، يدفع إما إلى اعتبار مساهمة هذه النخبة مجرّد كلام في كلام، وإما إلى الاعتقاد بأنها تعيش وتفكر بانفصال تامٍّ عن الواقع. ولأن النخبة ليست سلطة، ولا صلاحيات عملية أو تنفيذية لها، يسهل وصفها بأنها عديمة الفائدة ما دام أنه لا جهة فاعلة تستمع إليها وتسترشد بتوصياتها لبناء خطط «مكافحة» أو «معالجة»، خصوصاً في المجالات غير الأمنية التي بات يقرّ بأهميتها على المدَيين المتوسط والبعيد. هذه الإشكالات شغلت المشاركين في المؤتمر الدولي الثالث لمكافحة التطرّف الذي تنظّمه مكتبة الإسكندرية، كمساهمة فكرية وبحثية من جانبها ومواكبة للجهد الأمني الذي لا بدّ منه. وعلى مدى ثلاثة أعوام اهتمّت المداخلات بمختلف جوانب المشكلة، جذورها وتحوّلاتها وتطوّراتها، فضلاً عن العوامل المباشرة (الفقر والظلم...) وغير المباشرة (سياسات داخلية وخارجية) التي أسستها ولا تزال تغذّيها. وبالتالي ارتسمت معالم المكافحة المطلوبة، ولعل وسيلتها البارزة والوحيدة هي «الإصلاح». سيقال توّاً إنه عنوان فضفاض، وإنه كان استحقاقاً دائماً في جدول الأعمال العربي قبل أن يُطرح بإلحاح منذ 2001 على الأقل، أو أنه تحوّل منذ 2011 إلى معترك لا مفرّ منه. وكل التوصيفات تعني أنه مسلك صعب وواجب، وهذا صحيح، ولكنه غير مستحيل ولا بديل عنه. وعندما تصبح أي بيئة مصنّعة لظواهر التطرّف تكون المسؤولية عامة أولاً، وحكومية ثانياً. فالولادة غير الطبيعية للدولة كانت تلزمها بإزالة التشوّهات أو معالجتها، أما أن تستغلّها فقط من أجل توطيد سلطتها فهذا يشجّع فئات كثيرة على استغلال مضاد، وهذا ما أوجد دوراً للجماعات «المتأسلمة». فكلّما أهملت الدولة الفقراء والمهمّشين دفعتهم إلى أحضان تلك الجماعات التي غالباً ما تستخدمهم في أجنداتها. وتتأتّى الصعوبة في «الإصلاح» من كونه لا يقتصر على قطاع بعينه، إذ إنه سلسلة مترابطة، فلا إصلاح اقتصادياً ناجعاً ما لم يسبقه أو يرافقه إصلاح سياسي، ومع افتراض حصولهما لن تتحقق أهدافهما ما لم تُلمس في تنمية متعددة المجالات. وكل التقارير سجّلت، على مرّ الأعوام، قصوراً هائلاً في تطوير التعليم والطبابة كما في مكافحة الفقر والبطالة والأميّة، وعجزاً متراكماً في الميزانيات العامة، واستشراءً مطّرداً للفساد الذي يبدأ مالياً ويتحوّل سياسياً ثم اجتماعياً ثم مولِّداً وممأسِساً لظواهر التفلّت من القانون، فضلاً عن توزيع غير متوازن للموارد -إذا توفّرت- فيذهب جلّها إلى متطلّبات الدفاع والأمن. وقد بيّنت حالات الأنظمة المتساقطة إلى أي حدّ كانت هذه الأمراض مموّهة بقوة القمع والتسلّط وإلى أي حدٍّ كانت معتملة ومولّدة للتطرّف قبل انكشافها مع انهيار تلك القوّة. وإذ انبرى ما سمّي «الإسلام السياسي» للتعامل مع الواقع الجديد راح يتخبّط بين طبيعته الحاضنة للتطرّف وبين رغبته في تأسيس دوله فوق ركام الدول المتلاشية، فانتهى إلى فشل وإحباط أنتجا بدورهما الموجات الجديدة من العنف والإرهاب. وقبل ذلك كان الجميع التفت إلى الإسلام المعتدل معوّلاً عليه لتجديد الخطاب الديني، ولكن المهمة لم تبدُ يسيرة لأن الأوضاع العامة كانت قد انغمست في تطرّفات شتى، سواء بفعل الأهوال التي عمّت سوريا والعراق وسواهما، أو بسبب التدخّل الإيراني الذي استخدم الشحن المذهبي سلاحاً له. ويمكن أن تكون خطط مكافحة التطرّف أشبه بوصفة عامة، نظراً إلى تماثل المعضلات، أما القدرة على تناولها والعمل بها فيتفاوتان من بلد إلى آخر بسبب تفاوت القدرات والموارد وحتى الإرادة السياسية. والأكيد أنها تتطلّب من أي حكومة جهداً مزدوجاً لإدارة شؤونها الراهنة والعمل في الوقت نفسه بمنظور مستقبلي. ولكن شيوع المخاطر يدفع إلى التساؤل عما يمنع أن يكون هناك جهد عربي مشترك ما دامت ظاهرة التطرّف اخترقت كل الحدود. فلماذا لا يكون بموازاة الحرص على تنسيق أمني بين وزراء الداخلية، في إطار الجامعة العربية، حرصٌ آخر على خطوطٍ عريضة للتوجّهات التنموية كافة وعلى تحديدٍ للأولويات وانخراطٍ للمجتمعات، خصوصاً أن أسباب انزلاق الشبان إلى هاوية الإرهاب تكاد تكون متشابهة باستثناء بعض الحالات؟ فمن شأن ذلك أولاً أن ينبّه إلى الاختلالات، وثانياً أن يخفّف من التدخّلات الخارجية التي غالباً ما تكون لها أهداف لا تتواءم مع المصالح الوطنية.