جاء إعلان حكومة إحدى الولايات البرازيلية حالة الطوارئ لمدة 180 يوماً نتيجة ارتفاع ملحوظ ومفاجئ في عدد حالات الإصابة بفيروس الحمى الصفراء ليظهر الخطر الذي مازال هذا الفيروس العتيد يمثله على المجتمعات البشرية حول العالم. ويأتي هذا الإعلان على خلفية ظهور 63 حالة إصابة في الأسابيع الأولى من العام الجاري، مقارنةً بسبع حالات فقط طوال العام الماضي، وهو ما حدا بالحكومة المركزية لإرسال مليونيْ جرعة تطعيم للولاية محل الوباء الحالي. ويعتبر الفيروس المسبب للحمى الصفراء من أنواع الفيروسات التي تنتقل عن طريق لدغ جنس محدد من البعوض هو نفس الجنس المسؤول عن انتشار وباء فيروس «زيكا» الأخير في دول أميركا الجنوبية، والذي يعتقد أنه انتقل إليها من أفريقيا. ورغم الانحسار النسبي للحمى الصفراء خلال القرن الماضي، مقارنةً بالقرون السابقة، فمنذ عقد ثمانينيات القرن العشرين تشهد حالات الإصابة تزايداً مطرداً، يبلغ أكثر من 200 ألف حالة إصابة، 90 في المئة منها في دول أفريقيا وحدها، ليلقى 30 ألفاً منهم حتفهم سنوياً. وحالياً يعيش نحو مليار إنسان في دول ومناطق شائع فيها المرض، خصوصاً في المناطق الاستوائية من أفريقيا وأميركا اللاتينية بالتحديد. وهو ما دفع بالحكومة البرازيلية نهاية الأسبوع الماضي إلى أن تطلب من شركات ومراكز تصنيع التطعيمات الطبية مدها بـ11,5 مليون جرعة من التطعيم الواقي من هذا الفيروس، في ظل التزايد الأخير في عدد حالات الإصابات والوفيات. وهذا الطلب يأتي بعد شهور قليلة من صدور توصية عن منظمة الصحة العالمية منتصف العام الماضي بضرورة الاقتصاد في استخدام المتاح من التطعيم الواقي، والاعتماد فقط على 80 في المئة من الجرعة الروتينية، وهو ما من شأنه أن يوفر حماية لمدة اثني عشر شهراً فقط، وذلك في ظل النقص العالمي الحاد من التطعيم. وقد نتج هذا النقص بسبب استنزاف مخزونات الطوارئ من التطعيم، خلال حملات تطعيم واسعة في أنجولا، وأوغندا، وجمهورية الكونغو الديموقراطية، تم خلالها استخدام 18 مليون جرعة تطعيم، بعد أن قتل الفيروس حينها ثلاثمئة شخص، وأصاب مئات الآلاف في غضون بضعة أشهر. وبالترافق مع هذا الوباء تزايد أيضاً بشكل ملحوظ حينها عدد الحالات في الكونغو، مما أثار القلق والمخاوف من أن الوضع العالمي قد دخل في مرحلة الأزمة الحرجة، خصوصاً بعدما استُنفدت المخزونات العالمية عن آخرها في الشهور الأولى من العام. وتعتبر الحمى الصفراء من الأمراض التي يصعب تشخيصها بسهولة، حيث كثيراً ما تتشابه أعراضها مع أعراض أنواع أخرى من الحمى. وإن كان المصابون غالباً ما يتعافون بعد المرحلة الأولى من العدوى، التي تظهر في شكل حمى، وآلام مبرحة في العضلات وأسفل الظهر، مع صداع، ورعشة، وفقدان للشهية، وغثيان وقيء. ولكن في 15 في المئة من الحالات، يواجه المصابون مرحلة ثانية خطيرة جداً، تزداد فيها الحمى بشكل واضح، مع النزيف، وتدهور وظائف الكليتين، وتصبغ لون المريض وبياض العينين باللون الأصفر -الصفراء- وهي الأعراض التي اكتسب منها المرض اسمه. وبالنسبة إلى سيئي الحظ هؤلاء، الذين يدخلون المرحلة الثانية الخطرة، يلقى نصفهم حتفهم في غضون ما بين عشرة أيام وأسبوعين. ويعتقد العلماء أن الزيادة الحاصلة مؤخراً في عدد حالات الإصابة بفيروس الحمى الصفراء تُرد إلى انخفاض معدلات التطعيم ضد المرض، وزيادة الانتقال والسفر بين الدول والقارات ضمن ظاهرة العولمة، مع التغير المناخي الحاصل ضمن ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو ما يسمح للبعوض الناقل للفيروس بتوسيع مدى ونطاق انتشاره. وجدير بالذكر أنه في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد مجهودات شاقة بُذلت على مدار ثمانية أعوام لشق قناة تصل بين المحيطين الأطلسي والهادي، هي قناة بنما حالياً، وبعد إنفاق ميزانية بلغت 287 مليون دولار -ما يعادل مليارات بالأسعار الحالية- أعلنت الشركة المسؤولة عن المشروع بقيادة الفرنسي الشهير «فرديناند ديليسبس» إفلاسها في 1889، وتوقفت أعمال الحفر، وذهبت مدخرات مئات الآلاف من المستثمرين أدراج الرياح. ويرد هذا الفشل الذريع بعد النجاح الهائل الذي كان قد تحقق في قناة السويس، إلى عدة أسباب، من أهمها انتشار الأمراض الاستوائية بين العاملين في المشروع، وعلى رأسها مرضا الملاريا والحمى الصفراء. حيث وصل عدد الوفيات بين العاملين إلى نحو 200 شخص شهرياً، وبإجمالي أكثر من 22 ألف وفاة خلال محاولة الفرنسيين الفاشلة، التي تولاها من بعدهم الأميركيون ليستكملوا الحفر ويفتتحوا قناة بنما في بدايات القرن العشرين.