حُكم المحكمة العليا البريطانية يوم الثلاثاء الماضي، الذي طالبت فيه البرلمان، بإصدار تفويض بالخروج من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، كان حكماً محافظاً لأقصى درجة، وبكل ما يعنيه المصطلح من معنى. فالسماح للحكومة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، من دون تصويت برلماني، كان سيمكن رئيسة الوزراء ومجلسها، من تغيير القانون البريطاني من جانبهم، وهم ما كان سيمثل في حالة حدوثه انتهاكا للسيادة التقليدية للبرلمان. في الممارسة العملية، إذا صوت البرلمان لصالح «بريكست»، فإن القرار الصادر من المحكمة العليا، قد لا يؤدي لإبطاء وتيرة عملية الخروج كثيراً. ولكن المحكمة بقرارها فرضت، على الرغم من ذلك، احترام الأشكال الدستورية المنظَمة، وطالبت ممثلي بريطانيا المنتخبين، بتحمل المسؤولية الشخصية والكاملة لقرارهم التاريخي. وقد تجنب لوردات القانون، في أعلى محكمة بريطانية استخدم التعبيرات الطنانة، التي يغلب عليها الطابع النظري، حول طبيعة السيادة البرلمانية. بدلاً من ذلك، أصدرت المحكمة حكمها باعتباره تفسيراً لـ«قانون المجتمعات الأوروبية» الصادر عام 1972، وهو القانون الذي وافق عليه البرلمان آنذاك من أجل تيسير إدماج القانون الأوروبي، في القانون البريطاني. الحجة الأساسية التي استند إليها المعترضون على «بريكست»، هي أن الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، سيؤدي إلى تغيير القانون المحلي البريطاني فعليا- لأن قانون 1972 أدمج قانون الاتحاد الأوروبي في القانون المحلي البريطاني، كما سبق القول. ووفقاً للمبادئ الأساسية للدستور البريطاني، فإن البرلمان فقط هو الذي يمكن أن يغير القوانين المحلية. فالوزراء يمكن أن يديروا شؤون السياسة الخارجية بمفردهم بما في ذلك التوقيع على الاتفاقات والمعاهدات والانسحاب منها- ولكن من غير المفترض أن يكون لديهم القدرة على تغيير الحقوق القانونية، للرعاية البريطانيين. من جهة أخرى، كانت فحوى الحجة التي قدمتها حكومة المحافظين، هي أن إعلام الاتحاد الاوروبي بنية بريطانيا مغادرته مقدماً، لم يكن يندرج في إطار القانون المحلي، وإنما كان عبارة عن ممارسة لسلطة العلاقات الخارجية. وأضافت الحكومة أن قانون 1972 لم يقل أي شيء عن الآثار القانونية، التي يمكن أن تترتب على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. أقرت الحكومة، بالطبع، أن إعلان الانسحاب سيؤدي إلى حدوث تبعات قانونية، ولكنها أشارت إلى أنه، وبموجب معاهدة الاتحاد الأوروبي ذات الصلة، فإن الانسحاب مازال أمامه عامين كي يُنجز، وأنه يمكن خلال هذه الفترة للحكومة أن تقدم تشريعاً للبرلمان، يأخذ في اعتباره التغييرات التي ستحدث في القانون البريطاني. وقد حسمت المحكمة العليا القضية بموجب تصويت بأغلبية (3-8) بالقول بأن المعنى الحقيقي لقانون 1972، كان هو أن البرلمان قد فوّض مؤسسات الاتحاد الأوروبي بالصلاحيات اللازمة لصياغة بعض القوانين المحلية البريطانية. وكان من رأي المحكمة أن الحكومة البريطانية لو تركت الاتحاد الأوروبي، فإن النتيجة ستكون هي أن قانون 1972 سيتغير بناء على ذلك. وذلك كان يعني أن الانسحاب، سيؤثر على القانون البريطاني المحلي، وسيغير الحقوق القانونية للرعاية البريطانيين، وهو ما كان يستتبع اتخاذ إجراء من البرلمان. في تحليل منفصل، قالت المحكمة أيضاً إن برلمانات سكوتلاندا، وويلز، وأيرلندا الشمالية، لا تتمتع بحق أصيل لمنع الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، من خلال المطالبة بإجراء استفتاءاتها الخاصة. والأساس الذي يعتمد عليه هذا الرأي كان هو، أن البرلمان قد احتفظ بسلطته الخاصة باتخاذ قرارات، بخصوص الأجزاء التي آلت لبريطانيا. وكانت النتيجة الدستورية لكل ذلك هي، إعادة التأكيد على مركزية البرلمان وسيادته المطلقة، فيما يتعلق باتخاذ القرارات الأكثر أهمية في البلاد. وإذا نظرنا للمسألة من خلال منظور القانون الدستوري البريطاني- غير المكتوب جزئياً- فسنجد أن المحصلة كانت محافظة بدرجة كبيرة. ويُشار في هذا السياق إلى أن فكرة السيادة البرلمانية، قد وضعت في صلب التشريع البريطاني في أواخر القرن التاسع عشر، بواسطة العلامة «آيه في دايسي»، وإن كانت ترجع إلى قرون عديدة خلت قبل ذلك. وفي الحقيقة أن أكبر تقليص لسيادة البرلمان في التاريخ البريطاني المعاصر، قد حدث عندما سُمح لقانون الاتحاد الأوروبي، بتحديد القانون المحلي البريطاني، وهو ما فعله القانون 1972 بالضبط، كما تقول المحكمة. وفحوى الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا، يتمثل في أنها أعادت تثبيت العقيدة التقليدية المحافظة، الخاصة بالسيادة البرلمانية، في اللحظة ذاتها تقريباً التي كانت بريطانيا تستعد فيها للتخلص من السيادة الجزئية للاتحاد الأوروبي. لذلك يجب على مؤيدي «بريكست»، ألا يكونوا منزعجين أكثر من اللازم بشأن هذا الحكم، خصوصاً وأن الكثيرين منهم يكنون كراهية عميقة لفكرة تخلي بريطانيا عن سيادتها لبروكسل. ويمكن النظر إلى الاستفتاء على البريكست من منظور رمزي، باعتباره يمثل نوعا من الرفض، لمثل هذا التنازل، انطلاقا من مبدأ «بريطانيا أولا». والمحكمة العليا بقرارها، كانت تذكر المصوتين على الخروج، أنهم إذا ما كانوا يريدون العودة مجدداً إلى السيادة البريطانية التقليدية، فإنهم يجب أن يعودوا إلى المؤسسات السيادية البريطانية التقليدية- والتي يأتي البرلمان على رأسها. لا شك أن هناك قيمة مهمة في جعل البرلمان البريطاني يصوت من أجل الخروج. ولا يرجع هذا إلى أن أعضاء البرلمان، يتعين عليهم أن يتخذوا موقفاً، تجاه هذا الخروج، وإنما يعني أن أقدم مؤسسة ديمقراطية موجودة في هذا العالم، يتعين عليها أن تعطي موافقتها على قرار وطني فائق الأهمية. نوح فيلدمان* *أستاذ القانون الدستوري والدولي في جامعة هارفارد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»