قد يبدو الأشخاص الذين يكشفون أسراراً إما أبطالاً وإما خونة، ويعتمد ذلك على ماهية الأسرار التي يكشفونها، وعلى ميول الجمهور تجاه تلك الأسرار وتجاه مصدرها. وفي حالة «إدوارد سنودن»، الذي حصل على قدر كبير من البيانات من «وكالة الأمن الوطني» الأميركية، قبل أن يفصح عنها في عام 2013، فقد أطلق المعجبون به حملة كي يعفو عنه الرئيس أوباما في نهاية ولايته، لكن الرئيس الأميركي الجديد، «دونالد ترامب»، أعرب عن أن عقوبة «الإعدام» ربما تكون أكثر ملاءمة بحق سنودن. غير أن الموضوعات الصحافية التي استندت إلى تسريبات «سنودن»، فازت بجائزة «بولترز» للخدمة العامة في عام 2014، وعلى جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي في عام 2015. ومن ناحية أخرى، يتصور كثير من المسؤولين في الحكومة الأميركية أن «سنودن»، الذي يعيش الآن في روسيا، تنبغي إعادته إلى الوطن ومقاضاته أمام المحاكم الأميركية بسبب قيامه بالإفصاح عن معلومات سرية. وفي عام 2014، نشر «إدوارد إبستاين»، الكاتب المتخصص في الجاسوسية، مقالاً مثيراً للجدل في صحيفة «وول ستريت جورنال»، يقترح فيه بطريقة أو بأخرى النظر إلى «سنودن» باعتباره «جاسوساً». وكتب «إباستين» أن مسؤولاً سابقاً في إدارة الرئيس أوباما، أخبره بأن هناك ثلاثة تفسيرات محتملة لسرقة «سنودن»، وهي: إما أنها كانت عملية تجسس روسية، أو أنها كانت عملية تجسس صينية، أو أنها كانت عملية روسية صينية مشتركة! والآن، طرح «إبستاين» كتابه الجديد «كيف ضيّعت أميركا أسرارها.. إدوارد سنودن، الإنسان والسرقة». ويُفصّل فيه نظريته الخاصة بموضوع «جاسوسية سنودن»، مشيراً بهذا الخصوص إلى أنه اشتهر بكشفه أن «وكالة الاستخبارات الوطنية» كانت تتجسس بصورة غير قانونية على المواطنين الأميركيين، لكنه حصل في الوقت ذاته على زهاء مليون وثيقة لا علاقة لها بذلك، ولم يعطها الصحافة. وتساؤل المؤلف هو: أين ذهبت تلك الوثائق؟ وكيف أمكن لموظف صغير نسبياً في الوكالة، وليست له صلاحيات كبيرة، أن ينجح في الحصول على هذه المستندات كافة في المقام الأول؟ ولماذا اختار الإعلان عن نفسه للعالم من «هونج كونج»؟ وما هو سبب بقائه في موسكو منذ أن غادر هونج كونج؟ ويمكن للقارئ الاطلاع على معالم فرضية متماسكة حول «كيفية تضييع أميركا لأسرارها». فقد يكون «سنودن» عميلاً زرعته روسيا أو الصين أو كلاهما في «وكالة الاستخبارات الوطنية». وقد يكون تعاون مع عملاء آخرين في الوكالة، لم يتم الكشف عنهم بعد، يخدمون هم كذلك قوى أجنبية. وربما أنه عندما ذهب إلى هونج كونج سلم نفسه لعملاء صينيين، استجوبوه بصورة مكثفة أثناء فترة تصل إلى أسبوعين تقريباً بين وصوله وخروجه. ولعل الشيء ذاته وقع في موسكو أثناء الأيام الـ37 الأولى بعد وصوله إلى هناك، عندما بدا أنه اختفى لبعض الوقت في محيط أمن المطار. ولعل مكافأة انشقاقه كانت حياة محمية في روسيا التي احتفت بالجواسيس مثل «كيم فيليبي» و«جاي بيرجس» في السابق. بيد أن «إبستاين» لا يبرهن على أي من هذه الفرضيات. وكتابه «كيف ضيعت أميركا أسرارها»، هو عبارة عن مزيج من التكهنات التي يرددها بطريقة مذهلة، ويكتظ الكتاب بمصادر مجهّلة ولغة افتراضية مثل: «يبدو من المقنع أن نعتقد» أو «لا يحتاج الأمر إلى قدر كبير من التخيل كي نستخلص أن..».. إلخ! وفي بعض الأحيان، يبدو كما لو أن «إباستين» يستمتع على نحو كبير باستكشاف المنعطفات والالتواءات في قصة «سنودن»، حيث نجده يشير في الكتاب إلى أن «هذه الاتهامات القاسية تسببت في قدر هائل من الجدل المحتدم، لكنها لم تسلط الضوء على الحقائق، ولم تصحبها أي أدلة تظهر أن سنودن تعاون مع أي قوة أجنبية لسرقة الملفات السرية، أو أنه لم يكن يتصرف وفق مبادئ شخصية، بغض النظر عن مدى ضلال تلك المبادئ وخطئها». بيد أن «إباستين» يستغرق في صفحات كثيرة، وهو يدرس ولا يرفض، الاتهامات القاسية نفسها كافة، كي ينتهي بالقول: «إن سرقة سنودن لأسرار الدولة الأميركية تطورت، سواء أكان ذلك بصورة متعمدة أم لا، إلى مهمة للكشف عن أسرار وطنية خطيرة لصالح قوة أجنبية معادية». والاستنتاج الأساسي لـ«إباستين» في هذا الكتاب، هو أنه حتى لو استفاد الشعب الأميركي بصورة جزئية من الوثائق التي كشفها «سنودن»، فإن المستفيد الرئيس منها هو روسيا، التي لا يمكن أن تكون قد عجزت، من وجهة نظر المؤلف، عن الاستحواذ على المواد كافة التي كانت بحوزة «سنودن» بعد أن حصل عليها من «وكالة الأمن الوطني» عن طريق السرقة أو خيانة الأمانة، أو بالطريقين معاً. ومهما كانت التحذيرات التي استخدمها، وأيّاً كانت الأدلة الملموسة التي لم يتوصل إليها، فإن «إباستين» يرغب بوضوح في أن يترك لدى القراء انطباعاً بأن العميل «سنودن» لا يزال في روسيا بموجب صفقة تبادل من خلاله معلوماته مقابل حمايته. وأشار المؤلف مراراً وتكراراً إلى أن لديه سبباً يجعله متأكداً بشكل كبير من استنتاجه في هذا الخصوص، بخلاف قدرته على تسجيل ذلك في كتاب. ومن المثير للاهتمام أن من بين الأسماء الواردة في قائمة الأشخاص الذين وجه إليهم الشكر على «رؤاهم ومعرفتهم وانتقاداتهم، بعد قراءة جزء من الكتاب، هو وزير الدفاع المنتهية ولايته آشتون كارتر». ويصدر «سنودن» و«جوليان أسانج» من «ويكليكس» ودائرة حلفائهما المباشرين.. من ثقافة القرصان المعلوماتي الليبرالي، الذي لا يؤمن في معظم الوقت أنه لا ينبغي أن توجد «وكالة الأمن الوطني» من الأساس، سواء التزمت أم خرجت على ميثاقها القانوني. وعلى النقيض، يعتبر «إباستين» أحد أقوى المؤيدين للمهمة الرسمية لوكالة الأمن الوطني الأميركية التي تضطلع بمهام «اعتراض الاتصالات»، ويرى أنها عنصر محوري في قدرة الولايات المتحدة على المشاركة في «لعبة الدول». وبالنسبة إليه، فإن الدرس المستفاد من قضية «سنودن»، هو أن اعتماد الوكالة على المتعهدين من القطاع الخاص، مثل «سنودن»، بدلاً من موظفين مهنيين، جعلها عرضة بدرجة خطيرة لخروقات أمنية. وفي عصر الإنترنت، أوجد فلاديمير بوتين و«سنودن» و«ويكيليكس».. صيغة خاصة حول كيفية التفكير بشأن كشف الأسرار الحكومية. ويبدو أن الجواسيس التقليديين باتوا أقل أهمية في الوقت الراهن، لأن الأشخاص الاجتماعيين البارعين في التكنولوجيا يمكنهم القيام بذلك النوع من العمل بطريقة أكثر فاعلية. واضطلعت بعض الوسائل الصحفية، على الأقل في الوقت الراهن، بدور أكبر في نظام الكشف عن الأسرار، لأن القراصنة المعلوماتيين يفضلون إيجاد شركاء في وسائل الإعلام على مجرد كشف المعلومات بأنفسهم. لكن هذه الترتيبات الجديدة تجعل الصحفيين يبدون مثل قنوات اتصال وليسوا كمصدر أصلي للمعلومات. ولا يفترض أن يكون المراسلون قراصنة بأنفسهم، لكن بعضهم قد لا يمكنه مقاومة نشر معلومات مهمة حصل عليها أشخاص آخرون بطريق القرصنة. ولطالما شعر «إباستين» بالانزعاج من فكرة أن الصحافة تمثل لاعباً رئيساً في مسلسلات السرية، وتنقب عما ينبغي أن يعرفه الجمهور، ويرى أنها لا ينبغي ألا تكشف كل شيء بطريقة عشوائية. وفي عام 1974، نشر المؤلف مقالاً، تساءل فيه: «هل كشفت الصحافة فضيحة ووترجيت؟»، وكانت إجابته: «لا». لكن في هذه المرة يبدو أنه يُحمل «سنودن» والصحفيين الذين نشروا أسراره المسروقة المسؤولية مشتركة. بيد أن الحقيقة هي أن الصحافة لم تقرر ما يبقى سراً، وكذلك الكونغرس أو البيت الأبيض، وإنما «سنودن» هو من قرر ذلك! وائل بدران الكتاب:كيف ضيّعت أميركا أسرارها.. إدوارد سنودن، الإنسان والسرقة المؤلف:إدوارد إيبتساين الناشر:ألفريد نوف تاريخ النشر:2017