هناك ميثاق غير مكتوب لقواعد السلوك بين الدبلوماسيين الأميركيين، مؤداه أن من واجبهم ألا يقولوا أي شيء غير حقيقي، وأنه ليس مطلوباً منهم أن يقولوا كل شيء يعرفونه، لأنهم يجب أن يحرصوا أيضاً على الأسرار، وأن من المهم بالنسبة لهم في جميع الأحوال ألا يكذبوا ليس فقط انطلاقاً من التزام «أخلاقي» وإنما انطلاقاً أيضاً من التزام «عملي». وكثير من الأميركيين يعتقدون أن السياسيين قد يقدمون حقائق غير صحيحة، كي يتمكنوا من الفوز في الانتخابات. وعلى رغم أن ذلك قد يكون صحيحاً نسبياً، إلا أن الدبلوماسيين، يؤمنون عادة بأن سوء تقديم الحقيقة لا يمكن أن يقود إلى النجاح، وخصوصاً عندما يسعون إلى إقامة علاقات طويلة الأمد. ولذلك كله أصيب الدبلوماسيون الأميركيون بصدمة، عندما قال الرئيس ترامب، والمتحدث باسمه أشياء كان من الواضح تماماً أنها غير دقيقة. ففي خطابه الافتتاحي، قال الرئيس عدة أشياء عن الاقتصاد الأميركي كان واضحاً أنها غير دقيقة إلى أقصى حد. ومن أهم تلك الأشياء وعده باستعادة الوظائف الأميركية و«إخراج أفراد شعبنا من برامج الرفاه الاجتماعي وإعادتهم للعمل»، في حين أن من المعروف أن الاقتصاد الأميركي كان يستعيد وظائف بشكل منتظم، كل شهر تقريباً، على مدى السنوات الست الأخيرة. وقال ترامب في خطابه الافتتاحي كذلك: «لعقود عديدة قمنا بدعم جيوش دول أخرى، في الوقت الذي سمحنا فيه باستنزاف قوى جيشنا على نحو محزن»! وهذا في الحقيقة تشوية للحقائق، لأن المساعدات العسكرية الأميركية للدول الأخرى، لا تزيد عن 1 في المئة فقط من الميزانية الأميركية، في حين تنفق الولايات المتحدة في الوقت الراهن على قواتها المسلحة أكثر من الدول السبع التالية لها في الترتيب مجتمعة. وفي اليوم التالي لتنصيبه، زار ترامب مقر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وتحدث عن تنظيم «داعش» في العراق وقال: «لو كنا قد احتفظنا بالنفط لما اضطررنا لمحاربة داعش... كان يجب علينا أن نحتفظ بالنفط، حسناً! قد تكون هناك فرصة أخرى أمامنا». وفي الجزء الأخير من تصريحه يقول ترامب إن «جميع الغنائم يجب أن تذهب إلى المنتصر»، من دون أن يدرك أن هذا المبدأ قد بات غير سليم من الناحية القانونية، بموجب عدد من الاتفاقات الدولية التي وقعت عليها الولايات المتحدة. كما أن قوله «ربما تكون لدينا فرصة أخرى» يعني أنه يريد من القوات الأميركية أن تستمر في البقاء في العراق بل وأن تحتله بشكل دائم، متجاهلاً أن الولايات المتحدة لو فعلت ذلك، فستواجه بمعارضة خطيرة من العراقيين. إن الرئيس الجديد، باختصار، يبدو غير ملمّ بالحقائق الواقعية على الأرض في العراق. وقد أشار المعلقون السياسيون في الصحافة لهذه الأخطاء المتكررة، التي يرتكبها ترامب في تصريحاته. وقد استغل ترامب زيارته لمقر «سي. آي. إيه» للتعبير عن انتقاده الشديد لوسائل الإعلام الأميركية، حيث قال: «لدي حرب مستمرة مع وسائل الإعلام، فهم من أكثر الناس عدم أمانة على ظهر الأرض»، ولكنه، لم يقدم أي أدلة على أن ما يقوله بحق الإعلام صحيح. وفي اليوم التالي مباشرة، أرسل ترامب «سين سبايسر» المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض، لمقابلة الفريق الصحفي في البيت الأبيض، وقام «سبايسر» في لقائه مع الفريق، بمهاجمة وسائل الإعلام، وقال إن ما تنشره وتذيعه غير دقيق. ولكن «الدليل» الذي قدمه هو على صحة كلامه كان غير دقيق، حيث قدم ادعاءات عن ضخامة حجم الحشود التي حضرت حفل تنصيب ترامب، ولكن الصحافة كانت قادرة على إثبات أن هذه الادعاءات من جانب المتحدث باسم البيت الأبيض لم تكن دقيقة، وأنه باعتباره الرجل الذي يمثل رئيس الولايات المتحدة، يجب أن يكون دقيقاً تماماً في كل ما يقول. والمدهش أن ترامب و«سبايسر» لم يقدما أي اعتذار لإدلائهما ببيانات خاطئة. ونظراً لوفرة وسائل «السوشيال ميديا» اليوم، فإن مثل هذا التشويه للحقائق من قبل الرئيس والمتحدثين باسمه، يتم تفنيده بسهولة. ولكن المشكلة أن الصدام بين البيانات الرسمية والحقيقة يقوض مصداقية الرئيس ليس أمام الأميركيين فحسب، وإنما أيضاً أمام مختلف الحكومات والشعوب في أنحاء العالم. وهذا في الحقيقة، يضع الدبلوماسيين الأميركيين في موقف صعب.