لا يستطيع البيت الأبيض عدم الانتباه للفرق بين الحشد المحدود الذي حضر حفل تنصيب الرئيس دونالد ترامب يوم الجمعة الماضي والاحتجاجات الضخمة التي جرت في اليوم التالي. ولكن ما يهم أكثر ليس السبب الذي جعل أعداد المتظاهرين في جميع أنحاء أميركا تفوق أعداد من احتفلوا بالتنصيب، بل الأهم، الآن وعلى المدى الطويل، هو كيف تحدى هؤلاء المحتجين كلمات ترامب في خطاب التنصيب. لقد نزل ملايين من الأميركيين إلى الشوارع في «مسيرة نسائية» في تحدٍّ واسع النطاق لنظام ترامب الجديد. وملأت هذه المسيرات ليس فقط مدن بوسطن ولوس أنجلوس ونيويورك وسياتل وواشنطن العاصمة، بل أيضاً أماكن مثل بويز وإيداهو وألاسكا. وهذا يعني أن مدى التجاوب مع التظاهرات واسع وقد استقطب شرائح متعددة من مختلف أنحاء البلاد. إن ترامب هو ترامب، وربما يكون قد أثير بسبب حجم الاحتجاجات على أي حال. بيد أنه من المؤكد أن الخبير الاستراتيجي في البيت الأبيض «ستيف بانون»، والأعضاء الأكثر دهاء في فريق ترامب، قد أدركوا أن الاحتجاجات قد طمست خطاب التنصيب الذي ألقاه ترامب. وفي خطابه، سخر ترامب من «المؤسسة» التي هزمها. وقال «لفترة طويلة جداً، كانت مجموعة صغيرة في عاصمة أمتنا تحصد ثمار الحكومة بينما كان الشعب يتحمل التكاليف». إن عبارة «ثمار الحكومة» هي عبارة غريبة بالنسبة لخطاب تنصيب رئيس أميركي، حيث تبدو كلمة «ثمار» وكأنها غنائم تذهب إلى المنتصر. ولجعل هذه اللغة أقل إزعاجاً، وخاصة فيما يخص بعض المسؤولين الذين عينهم ترامب، أصر في خطابه على أن «الشعب» هو من انتصر في النهاية، حيث قال: «إن ما يهم حقاً ليس الحزب الذي يسيطر على الحكومة، ولكن ما إذا كان الشعب هو من يسيطر على حكومتنا». مضيفاً: «إن يوم العشرين من يناير عام 2017 سيُذكر باعتباره اليوم الذي أصبح فيه الشعب هو الحاكم لهذه الأمة مرة أخرى». وكما هو الحال مع عدد لا يحصى من الشعبويين قبله، نصَّب ترامب نفسه باعتباره ممثل صوت وإرادة «الشعب». كما كتب «جان- وارنر مولر» في كتابه «ما هي الشعبوية؟»: «إن ادعاء التمثيل الحصري ليس ادعاء اختبارياً، إنه دائماً ادعاء أخلاقي بلا ريب. عند الترشح لمنصب، يصور الشعبويين منافسيهم السياسيين كجزء من النخبة الفاسدة غير الأخلاقية، وعندما يحكمون، يرفضون الاعتراف بالمعارضة على أنها مشروعة». ويستمتع فريق ترامب عادة بإدانة النخب. وعندما وصف المعلق السياسي المحافظ «جورج ويل» خطاب ترامب بأنه الأسوأ في التاريخ، كان ذلك انتصاراً لـ«البانونية» (نسبة لبانون)، القوة الموجهة لـ«الترامبية» (نسبة إلى ترامب). إن رئيساً منتخباً بنسبة 46 في المئة من التصويت الشعبي، وقد تولى المنصب بشعبية متدنية تاريخياً، يحتاج إلى نقد النخب لكي يبرز نفسه ويدعم رؤاه الشعبوية في الشارع! ويزعم البعض أن عدد الأشخاص الذين تظاهروا ضد ترامب يوم السبت الماضي ربما يزيد على المليونين. وإذا كان ترامب يجسد الشعب، فمن أين أتت هذه الملايين من المتظاهرين التي تصر على أنه لا يمثلها؟! لم يكن لترامب ولا لمنظمي مسيرة النساء أن يدركوا كيف سيتم دحض كلماته الشعبوية في خطاب التنصيب بهذا الشكل من قبل هذه الموجة من الاحتجاجات يوم السبت. صحيح، أنه انتصار على المدى القصير. لكن إدارة ترامب ستكون في مواجهة معركة رأي عام طويلة وشرسة. وقد تكون هذه مجرد بداية. والجميع في واشنطن -من رئيس مجلس النواب «بول ريان» إلى البيت الأبيض المصدوم، ومن الديمقراطيين الذين يحاولون الخروج من الأنقاض إلى جماعات المصالح الليبرالية الباحثة عن ملاذ أيديولوجي- لديهم نظرة مختلفة للشعب عن تلك التي وصفها الرئيس ترامب. فرانسيس ويلكينسون: كاتب أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»