مع تولي «دولاند ترامب» مهامه الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأت تلوح في الأفق حرب تجارية دولية ستقضي على معظم المكاسب التي تحققت بفضل العولمة على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ توقيع دول العالم اتفاقية منظمة التجارة العالمية في عام 1995. وجهة نظر ترامب تكمن في أن العولمة وانفتاح الأسواق أديا إلى انتقال جزء مهم من الأعمال الإنتاجية والخدمية إلى خارج الولايات المتحدة، وبالأخص إلى الصين بسبب رخص الأيدي العاملة التي تتيح للشركات متعددة القومية تحقيق المزيد من الأرباح، كما أن التسهيلات التجارية أدت إلى إغراق السوق الأميركية بالسلع الصينية الرخيصة، مما أدى إلى إغلاق آلاف المصانع وفقدان الوظائف وازدياد البطالة. لذلك يسعى الرئيس الأميركي إلى فرض رسوم وضرائب جديدة مزدوجة، أي على الواردات من جهة وعلى الشركات العاملة في الخارج من جهة أخرى، إذا لم تعيد هذه الشركات النظر في قراراتها السابقة وتعمل على إعادة جزء من أنشطتها إلى الولايات المتحدة مرة أخرى، حيث هدد في هذا الصدد بفرض رسوم كبيرة على السيارات اليابانية المصنعة في المكسيك والتي تعبر الحدود بسهولة مستغلة الاتفاقيات والتسهيلات التجارية بين دول أميركا الشمالية. مثل هذا الموقف والذي يبدو أن ترامب مُصرٌ على نهجه، بدليل إلغائه اتفاقية الشراكة أو التجارة الحرة عبر الهادي، استدعى ردود فعل فورية وغاضبة خصوصاً من الصين، حيث أعلن الرئيس الصيني من منتدى دافوس الأسبوع الماضي «أن هذا التوجه سيقود إلى حرب تجارية عالمية لن يكسب منها أحد وستشكل خسارة للجميع». يبدو أن رأي الرئيس الصيني هو الأقرب للحقيقة، فإذا نفذ ترامب تهديداته، فإن بقية دول العالم لن تقف متفرجة، وبالأخص الاتحاد الأوروبي الذي يسعى إلى توقيع اتفاقية تجارة حرة مع واشنطن دون جدوى، وكذلك القوى الاقتصادية الكبيرة، كاليابان والصين والهند وروسيا، إذ إنها ستتخذ إجراءات مضادة ستؤدي حتماً إلى حرب تجارية دولية. صحيح أن الولايات المتحدة، هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، إلا أنه لا يمكنها مواجهة بقية الدول مجتمعة، فالصادرات الأميركية تعتبر محركاً أساسياً للنمو وتوفير فرص العمل، إذ إن أي إجراءات مضادة للحد منها من قبل بقية دول العالم ستعرض الاقتصاد الأميركي لخسائر ربما تفوق تلك المتحققة من سياسات ترامب التجارية. ولكن ماذا عن بقية دول العالم، بما فيها البلدان العربية؟ لا نعتقد أنه ستكون هناك انعكاسات مباشرة لهذه الحرب التجارية، التي تتنازع فيها البلدان الكبرى، إذ إن معظم الدول العربية لم توقع في السابق اتفاقيات للتجارة الحرة مع واشنطن، وإنما ستكون هناك انعكاسات غير مباشرة بالتأكيد، ففرض قيود جديدة على الواردات الصينية والهندية للسوق الأميركية الكبيرة ستؤدي إلى الحد من معدلات النمو في هذين البلدين، مما يعني تراجع الطلب على مصادر الطاقة المستوردة، كالنفط والغاز، كما أن حدوث حرب تجارية سيضر بمعدل النمو العالمي، وهو أيضاً جانب سلبي فيما يتعلق بإجمالي الطلب على الطاقة. وفي الوقت نفسه، فإن العولمة ساهمت في زيادة التبادل التجاري الدولي وفي توفير ملايين فرص العمل حول العالم، بما في ذلك ارتفاع معدلات التجارة العربية، إلا أن التوجه الجديد سيؤدي إلى نتائج عكسية تماماً، مما قد يؤدي إلى إغلاق بعض القطاعات الإنتاجية ويزيد من البطالة، وهي مسألة لا يتحملها الوضع الاقتصادي العالمي المضطرب والمتذبذب. هل ستساهم سياسات ترامب الاقتصادية في تعريض الاقتصاد الدولي لهزات جديدة هو في غنى عنها؟ الجواب سيتضح من خلال الإجراءات التي ستتخذها الإدارة الأميركية الجديدة في الأشهر القليلة القادمة، إلا أن على البلدان كافة متابعة للتطورات في هذا الجانب المهم الخاص بالتجارة الدولية، فحدوث حرب تجارية سيعني بالتأكيد خسائر جسيمة ستتفاوت تداعياتها وتأثيراتها بين دولة وأخرى. د. محمد العسومي* *مستشار وخبير اقتصادي