كان للولايات المتحدة الأميركية في المئة سنة الأخيرة دور كبير في النظام العالمي إن لم نقل إنها كانت هي التي تحدد معالمه وتؤثر فيه بالدرجة التي تحقق مصالحها ومصالح حلفائها... وللوصول إلى دور دركي العالم لا يمكن لهذا البلد مهما بلغت درجة قوته العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية أن يعمل وحده، إذ لا بد من حضور حلفاء يعتمد عليهم، ومؤسسات دولية تترجم المعطيات والتوجيهات الاستراتيجية النظرية إلى قرارات وهكذا دواليك. فهذه القاعدة هي التي جعلت الحلف الأطلسي مثلاً مؤسسة عسكرية قائمة الدور والحضور، وذات بعد ردعي وتدخلي يحسب له ألف حساب، وجعلت معاهدة شمال الأطلسي منذ البدء إلزاماً للولايات المتحدة وكندا وعشر دول أوروبية باعتبار أي هجوم على أي دولة منها هجوماً عليها جميعاً.. كما أن هذا الدور أيضاً هو الذي مكن تكتلاً مثل الاتحاد الأوروبي من تقوية مؤسساته في مواجهة الجارة الروسية. ولنتوقف هنا ملياً عند التجربة الأوروبية: صحيح أن الاتحاد الأوروبي عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون وفلاسفة قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية.. وصحيح أيضاً أن دوله استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض أعضائه والمبادئ الوحدوية السامية، إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلي واحد. ولكن ما كان للاتحاد الأوروبي أن يستطيع تحقيق هذه المنجزات وغيرها لولا الدعم الأميركي الذي كان دائماً يرى في اتحاد أوروبي قوي جدار صد قوياً ضد أي توسع روسي وتحقيقاً لمصالحه الاستراتيجية. أما أن يأتي اليوم الرئيس ترامب ويعلن صراحة أنه يريد رفع العقوبات عن روسيا، وأنه مع خروج المملكة البريطانية من الاتحاد الأوروبي، فهذا منذر بأوقات عصيبة ليس فقط على الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي أو الفضاء المتوسطي أو العالم العربي، وإنما أيضاً على النظام العالمي بأسره.. فهذا النظام ليس عبارة عن ألبسة يمكن لأكبر فاعل دولي فيه أن يغيرها متى شاء وكيفما شاء.. صحيح أنه يعاني أزمات بنيوية، وتصاعد تأثيرات العولمة على مكوناته، وأنه يحتاج إلى حقن جديدة، ولكن الذي نراه هو أن هذه الحقن التي يريد ترامب ضخها فيه هي حقن مملوءة بالفيروسات المهلكة، حيث سيخرج من هذا النظام كل من يريد أن يبقى في صحة وعافية ولكن بعد أن يكون قد تنفس بعضاً من الفيروسات التي ضخت في المجال العام لهذا النظام. إن كل الاستراتيجيين الذين قاموا بتحليل خطاب الرئيس الأميركي عند تنصيبه يوم الجمعة الماضي، يرون أن استراتيجية ترامب القائمة على «أميركا أولاً» خطأ ومصيبة كبيرة على أميركا والحلفاء، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي جمعت كل رؤساء الولايات المتحدة في المئة سنة الأخيرة، وبمعنى آخر فإن الرؤية التقليدية لأميركا عن العالم سيحدث فيها زلزال مدوٍّ، كما أن هذا الانكماش الاستراتيجي والتغيير التكتيكي سيغير الكثير من الأمور في علاقات الدول بشعوبها، إذ ستصل لا محالة أحزاب قومية يمينية إلى السلطة في العديد من الدول الأوروبية، وستقوى الأنانية الاقتصادية والاجتماعية للدول انطلاقاً من مبدأ «ما عليّ إلا نفسي»! كما أن قيم الحرية والكرامة والانفتاح ستتبخر في العديد من البلدان وخاصة تلك التي يوجد المجال السياسي العام فيها على شفا جرف هار، ينتظر أي مؤشر لينهار بالدولة في غيابات المجهول والفوضى العارمة. وقد قطع الرئيس الأميركي على نفسه وعوداً كبيرة في حملته الانتخابية ومن أجلها صوّت له الأميركيون، وهو رجل أعمال كبير يعي مفهوم الوعود والوفاء بالعهود، ولا إخاله سيقوض معالم تصوره لأميركا وللعالم، ولكن بمجرد أن دخل البيت الأبيض وحتى قبل أن يتعرف إلى مرافقه، وقع على وفاة قانون الصحة الذي كان قد أتى به الرئيس أوباما، إيذاناً ببدء مرحلة تنفيذ ما وعد به! وأنا على يقين أنه تكفي إشارتان محددتان في السياسة الخارجية الجديدة لأميركا لتتبنى العديد من دول العالم مبدأ الحمائية كركيزة أساسية في الحكم وفي تعاملها مع الآخر أياً كان. وآخر الكلام: قد تغلق على نفسك في غرفة مشيدة مخافة الأمراض وهجمات الناس الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولكن ستحجب في الوقت ذاته عن نفسك الضوء والهواء، فأي السبيلين أفضل؟