بعد القسم التقليدي على نسخة «ابراهام لنكولن» من الإنجيل، استلم «دونالد ترامب» السلطة رسمياً، وألقى خطابه المنتظر الذي لم يضف جديداً إلى أفكاره ومواقفه المألوفة التي كررها على نطاق واسع في حملته الانتخابية وتغريداته المثيرة في تويتر. وكما هو متوقع، غلبت النزعة الشعبوية على خطاب ترامب الرئاسي الأول، معلنا سخطه على بيروقراطية واشنطن ونخبها السياسية، مؤكداً أن كل خيارته الداخلية والخارجية ستكون موجهة بأولوية المصالح الأميركية، في نغمة ثورية حادة تحمل ظاهراً شحنة القطيعة مع عصر سياسي كامل. الفيلسوف الأميركي «ريتشارد رورتي» (المتوفى عام 2007) كان قد توقع عام 1998 في كتابه «استكمال وطننا» ، أن تشهد الولايات المتحدة وكل الديمقراطيات الصناعية العريقة ثورة القاعدة الانتخابية الريفية والطبقات الوسطى ضد النخب الحاكمة، بما سيترجم أيديولوجيا في صعود النزعات الشعبوية التي تراهن على «زعامات قوية» في إعادة بناء الهويات القومية المهددة. ما توقعه «رورتي» هو ما حدث فعلاً في الولايات المتحدة، فلم يكن فوز ترامب هزيمة للديمقراطيين وحدهم بل لكل الطبقة السياسية بما فيها زعامات الحزب الجمهوري التي لم تتحمس يوماً للوافد الجديد الغريب على دوائر السياسية الأميركية التقليدية. هل سيكون ترامب البطل المنتظر الذي سيجدد «الحلم الأميركي» كما يقدم نفسه أو القوس العابر في تاريخ أميركا السياسي كما يتوقع خصومه؟ للإجابة على هذا السؤال، نحيل إلى النموذج التفسيري الذي بلوره عالم السياسة الأميركي «ستيفن سكورونك» في أعماله الهامة حول القيادات السياسية الأميركية، وقد قدم قراءته للحظة ترامب في مقابلة مع صحيفة «ذي ناشين» (22 نوفمبر 2016)، معتبراً أنها تندرج في مسار تتابعي معروف في الحقل السياسي الأميركي الذي تتحدد فيه كل حقبة بقانون ثلاثي أساسه الانتقال من شخصية «المؤسس» إلى شخصية «المجدد» انتهاءً بشخصية «قاطع التيار» (نهاية اللحظة السياسية). وفق هذه المقاربة، عرفت الولايات المتحدة منذ نهاية القرن الـ19 ثلاث لحظات سياسية كبرى لكل منها أيديولوجيتها المهيمنة، وترتبط كل منها بثورة تقنية صناعية، وهذه اللحظات هي: اللحظة الرأسمالية الكبرى التي رمز لها شعار «دعه يعمل» وقد ارتبطت بعصر الصُّلب والكهرباء وامتدت من 1879 إلى 1929، لحظة «العهد الجديد» التي ارتبطت بعصر السيارات والإنتاج الصناعي الكثيف (1908 -1973)، ولحظة «الثورة المحافظة» التي بدأت منذ 1980 وارتبطت بعصر الشركات والعولمة المالية وهي في طور الانتهاء. وفق نموذج ترامب، في كل من اللحظات الثلاث مؤسس باني هو الذي يضع الأسس ويرسخ البناء الأيديولوجي، وهو بالنسبة للحظة الرأسمالية الكبرى «ابراهام لنكولن» (انتخب 1860) و«فرانكلين روزفلت» (انتخب 1932) بالنسبة لمرحلة «العهد الجديد» التي أدت إلى إصلاحات مؤسسية كبرى، وهو «رونالد ريغن» (انتخب 1980) بالنسبة للحقبة المحافظة التي نعيش اليوم نهايتها. أما شخصية «المصلح» فهي الواجهة التي تدخل التعديلات الضرورية على النموذج الأيديولوجي عندما يبدأ في التراجع تحت ضغط التجربة والواقع، ومثالها «تدي روزفلت» (انتخب 1901) بالنسبة للحظة الأولى، و«ليندن جونسن» (1963) بالنسبة للحظة الثانية و«جورج بوش الأب» (2000) بالنسبة للحظة الثالثة. أما شخصية «قاطع التيار» فهو الذي يمثل مرحلة الفشل والانهيار التي تفرض الخروج من النموذج الأيديولوجي بكامله، ومثالها «هبرت هوفر» (انتخب 1928) الذي كان عهده نهاية اللحظة الرأسمالية التقليدية التي رمزت لها أزمة 1929، و«جيمي كارتر» (1975) الذي أخفق في تجاوز أزمة المؤسسات الولسونية (التضخم وأزمة الطاقة). من هذا المنظور، يرى «سكورونك» أن ترامب سيؤدي دور «قاطع التيار» بالنسبة للحظة المحافظة التي دخلت طور الانتهاء، مبيناً أنه عير قادر على إحداث التغييرات الموعودة على نموذج لم يعد قادراً على التأقلم مع طبيعة الثورة التقنية الجديدة القائمة على الشبكات المعلوماتية الشخصية. ومن هنا فالخيار الذي يتبناه (العودة إلى سياسات الحماية والانعزالية والنظم الاجتماعية التقليدية) لا يمكن أن يفضي إلى نتائج إيجابية ملموسة بل سيؤدي إلى تقويض النموذج المحافظ بكامله. وفق هذه المقاربة، كان الرئيس «أوباما» سابقاً على عصره، وصل للسلطة في مرحلة كانت اللحظة المحافظة تحتاج إلى من ينهيها بعد أن فشل سلفه «بوش الابن» في إصلاحها، لذا فإن فوز «ترامب» لا يعني انتصار الحزب الجمهوري الكلاسيكي الذي ليس الرئيس الجديد «وريثه الشرعي». ما نخلص إليه هو أن لحظة ترامب، وإن كان من المتوقع أن تكون مثيرة وصاخبة، فإنها ستكون لحظة تحول ومراجعات عميقة في التجربة الأميركية ولن تكون انطلاقة جديدة للحلم الأميركي.