حرية البحث العلمي غائبة عن ساحة أكثر الجامعات العربية، والكثير من الأساتذة «يعانون تضييق السلطات والأجهزة الرقابية، التي غالباً ما تنظر بعين الشك والريبة إلى الباحث الجاد»، هذا ما ورد في كتاب السلطوية في التربية العربية، للدكتور يزيد السورطي، الكويت، 2009، ص 73. في كثير من الأحيان، يقول أحد الأساتذة: لا يتمكن الباحثون من تناول كثير من الموضوعات، ولا يسمح لهم بالكتابة والتأليف والنشر، إلا بعد عرضها على سلسلة طويلة من القيود والرقابة. يقول الباحث د. علي أومليل، إحدى الباحثات العربيات أشارت بأسى إلى وضع البحث في جامعات بلدها بقولها: «إن حرية البحث الأكاديمي كانت أكثر في عهود الاحتلال، وفي عهود النضال من أجل الاستقلال، مما هي عليه الآن»، «ص 73». الباحثون العرب يسيطر عليهم الخوف، كما جاء في الكتاب عام 2009، ومن المستبعد أن تكون المخاوف كلها قد زالت بعد «الربيع العربي»! الباحثون العرب محاصرون في جامعاتهم، والكلمة العربية، يقول أحدهم مقيدة، كما يقول د. سلامة طناش من الجامعة الأردنية عام 1995: «وإن من أهم المشكلات التي يعانيها الباحثون العرب هي ضيق مدى حرية التعبير والقول والبحث، بل إن الباحثين العرب بشكل عام يستشعرون عدم الترحيب بهم، وإعاقة دورهم في الإسهام في حل مشكلات مجتمعاتهم، ما أدى إلى ضعف رغبتهم في الإبداع والابتكار بسبب الإنكار والإهمال وقلة التشجيع، ما قاد في كثير من الأحيان إلى تسرب الكفاءات العلمية، إما إلى الأعمال الإدارية وإما إلى خارج الوطن، حيث تجد نفسها موضع التقدير والاحترام». «د. السورطي، ص 73». ويلفت عند تطرقه لتاريخ الحرية الأكاديمية النظر إلى أن بوادر ظهورها كان في البلدان الغربية، وفي جامعة «ليدن» liden في هولندا عام 1575، إذ منحت المعلمين والطلبة شيئاً من الحرية في بدايات نشأتها، ولم تتطور هذه الحرية في بريطانيا أو فرنسا، بل اتسع نطاقها كمفهوم في الجامعات الألمانية. ومع إنشاء جامعة برلين في العام 1811، وتحت رئاسة الفيلسوف «فيخته» أصبحت الحرية الأكاديمية تعني حرية التعليم والتعلم. أما في الولايات المتحدة، فإن النموذج الذي أعطته الجامعات الألمانية، واتساع آفاق النظرات الاجتماعية والفكرية ساعدا على ازدهار فكرة الحرية في التعليم. ومن الباحثين من يعتبر حصر هذه الحرية بجامعات الغرب نوعاً من التعصب الثقافي والانحياز التاريخي. وينقل د. السورطي عن الباحث الكويتي د. عبدالمحسن حمادة قوله: «كانت حرية الفكر من السمات البارزة التي عرفتها مؤسسات التعليم في المجتمع العربي طوال العصرين الأموي والعباسي، إذ كان العلماء يتمتعون بحرية فكرية واسعة في مجال اختيار المناهج وطرق التدريس والمراجع، كما كان الطلبة أحراراً في اختيار المدرس الذي يتلقون العلم على يديه». «ص 71». وتؤكد قوانين الجامعات العربية أنها مؤسسات علمية مستقلة، وعلى الرغم من ذلك، فإن الواقع يؤكد حقيقة تعرض معظم تلك الجامعات للاختراق والتدخل والمراقبة والمتابعة. ولا تقوم العلاقة بين الحكومات العربية وجامعاتها في رأي الباحثين على الثقة والود. ويلخص الخبير العراقي التربوي «متى عقراوي» (1901 - 1982)، نقاط الاحتكاك بين الطرفين في اعتماد معظم الجامعات على التمويل الحكومي، وشعور الحكومات بالخوف والحساسية من نقد الأساتذة، وقلة خبرة الجامعات لحداثة نشأتها، والتعسف الإداري أحياناً كإقالة رؤساء الجامعات. ويقول باحث إن بعض الدول العربية تعتبر التمويل وسيلة لإلغاء استقلال جامعاتها، وعنصر ضغط لتقييد حريتها، وجعلها وسيلة دعاية وإعلان بدلاً من أن تكون منبر فكر وثقافة. ويشير باحث عراقي آخر، د. محمد جواد رضا إلى أن غموض مصطلح الحرية الأكاديمية في معظم الجامعات العربية جعل الكثيرين يعتقدون أن الحرية الأكاديمية تقتصر على الأستاذ ولا تخص الطالب، ويحدد د. جواد رضا ثلاثة جوانب للحرية الأكاديمية للطلاب، وهي الحق في المشاركة وإبداء الرأي، وحقهم في جعل المنهج مرناً وحقهم في تعليم ممتاز. ويتحدث د. أحمد عبيد عن نصيب الطلاب من ناحية التفاعل مع الأستاذ والمنهج وحقوق الطالب الفكرية: «إن الحرية الأكاديمية تمتد إلى المحيط الطلابي، فالطالب يدرس ما يميل إليه من مجالات الدراسة الجامعية، وليس للجامعة عليه فيما يتصل باختياره إلا أن تتحقق فيه الشروط العامة المتصلة بالمستوى التحصيلي والقدرات، ولا يجوز للجامعة أن تحرمه من متابعة الدراسة بها بسبب انتماءات سياسية أو مذهبية معينة، وللطالب الحق في مناقشة ما يقدم إليه من آراء ونظريات، وفي إبداء رأيه فيها، وليس للأستاذ أن يجبر طلبته على الانقياد لرأي معين، أو الأخذ بنظرية دون أخرى، بل عليه أن يتيح لهم فرصة عرض الرأي والحوار بشأنه. صحيح أن الطالب عادة يكون بين يدي أستاذ يعتبر أكثر معرفة وأوسع خبرة وأدرى بمواطن القوة والضعف في النظريات والآراء المختلفة، لكن الأستاذ ينبغي أن يتذكر أنه يدرب طلبته على التفكير، وعلى اختبار الآراء، وأنه يقودهم إلى الموقع الذي يمكن أن يعتبر عنده قادراً على التفكير المستقل المتحرر». «د. السورطي، ص 82، عن د. محمد وجيه الصاوي». إن طالب اليوم في البلدان العربية ليس طالب العقود السابقة. والانفتاح المعلوماتي والسياسي الذي تعيشه سائر المجتمعات في مختلف دول العالم يطرح تحديات جدية أمام مستوى الجامعات العربية وقدرتها على تلبية احتياجات سوق العمل ومهام النهوض بالمجتمع وتغيير ملامح الجامعات كي تلحق.. ولو بأواخر الجامعات الألف المذكورة في القوائم الأكاديمية.