سأنقل القارئ العربي في هاته المقالة إلى فن أدبي تميز به المغاربة، وهو الملحون الذي كثيراً ما يسألنا عنه الزملاء والأحباب من الوطن العربي والإسلامي، وهو فنّ شعريّ وإنشاديّ وغنائيّ خاص بهذا البلد، وتراث مكتنز يختزل مقومات الثقافة المغربية ومظاهر حياتها الأصيلة. فهو يتخذ كما يكتب أحدهم من اللهجة العاميَّة أداتَه، ومن مضامين اللغة الفصحى بشعرها ونثرها، مادتَه التي تتلوّن مواضيعها بألوان التوسلات، والمدائح النبوية، والربيعيَّات، والعشق، والهجاء، والرثاء. ? وأولى ?بواكير ?فن «?الملحون» ?ظهرت ?في «?العهد ?الموحدي» ?خلال ?القرن ?السابع ?الهجري.? ?كما ?عرف ?في «?العصر ?السعدي» ?تطوراً ?مهماً ?قبل ?أن ?يصل ?إلى ?درجة ?التألُّق ?والتطور ?في ?نهاية ?القرن الـ?19، ?حيث ?انتشر ?بشكل ?واسع ?بين ?الطبقات، ?وطغى ?على ?مضمونه ?الطابع ?الديني ?قبل ?أن ?يطرق ?أبواب ?مواضيع ?أخرى ?استهلها ?بالطبيعة ?وختمها ?بالغزل. وإجماع شعراء الملحون على عدة مواضيع منها ما هو متعلق بمستقبل البلاد والعباد، والتفاني في إظهار ثقتهم بولي الأمر، هو في الحقيقة محبة وولاء للدوحة النبوية التي إليها يرجعون، وتمجيد وتقدير لشأنهم. فهم نجوم يستضاء بها، ومحبتهم من محبة الله، وهو مفتاح لكل خير، وهم أهل الرتبة العالية، وكهف المحتاج، وعون المتضرع التائب، إلى غير ذلك من الصفات التي لا حصر لها عند شارع الملحون وهو يمدح آل البيت في تعداد تلك الصفات. ?يقول ?أحد ?الشعراء:? ?انتم ?مفتاح ?كل ?خير وانتم ?ناس ?الفوز ?والمراتب ?لمعالي وانتم هل التعظيم والرضا والسعد ولقبال وانتم كهف المحتاج الضعيف المتضر الايلو انصير ولا والي وانتم الرقيا ولعلاج وانتم طب العلال وانتم كنز المحتاج أو لغنى والربح للي منهو اضعيف مثلي وابحالي وانتم عز اللغريب لا حد عليه ايسال وانتما ?غوت ?الله ?انضام بكم على المضيوم تتفجا كل اهوالي وانتم المن استغاث غوث في كل اريا واسهال وانتم ?عار ?الكل ?من ?استجربكم ?فوق ?الترى أو فالبحر العالي من ?ينده ?بكم ?لغنا ?اعليه ?الوحد ?يسهال ومع الزمن زاد اهتمام المغاربة بفن الملحون، خاصة في فاس، وسلا، ومكناس، ومراكش، على مراحل متباعدة تأثر خلالها بعوامل عدة مشكلاً ما يشبه ديوان المغاربة وسجل حضارتهم بكبر معانيه، وعمق أفكاره، وقيمة الفوائد المبثوثة في شعره، وتنوع بنائه وبحوره، واتساعه في الزمان والمكان. ?وعبر ?تلك ?العصور ?انتقل ?أداء «?القصيدة ?الملحونية» ?من ?مجرد ?السرد ?في ?المساجد ?والزوايا، ?إلى ?اعتماد ?اليد ?في ?ضبط ?الإيقاع ?أو ?ما ?يسمى ?«?التوساد»?، ?وقد ?توسد ?الأداء ?في ?البداية ?بآلة «?التعريجة» ?أو «?لكوال»?، ?واتسع ?نطاق ?الآلات ?فيه ?بما ?يقتضيه ?التنوع ?بين ?الأقسام ?وأجزائها. ولعل ?أكبر ?باحث ?مغربي ?كتب ?عن ?الموضوع ?في ?مجلدات ?وبنى ?مدرسة ?فكرية ?مستقلة ?هو ?الدكتور ?العلامة ?عباس ?الجراري ?عميد ?الأدب ?العربي ?والمفكر ?المقتدر ?الذي ?تخرجت ?على ?يديه ?أجيال ?من ?العلماء ?ورجالات ?الدولة ?الكبار، ?فهو ?يرى ?أن ?نشأة الملحون ?كانت ?شعبية ?محلية، ?نابعة ?من ?البيئة، ?ومتأثرة ?بها ?كغيرها ?من ?الفنون ?والآداب ?الشعبية. ?لهذا ?فهو ?ينفي ?كونها ?متأثرة ?بالزجل ?الأندلسي ?حيث ?يقول?: «?لسنا ?نقول ?بأنها ?امتداد ?لتيار ?الزجل ?الأندلسي، ?فالفجوة ?الزمنية ?بعيدة ?بين ?الفترة ?التي ?وصلتنا ?عنها ?نصوص ?مغربية ?متأثرة ?بالزجل ?الأندلسي ?وبين ?الفترة ?التي ?ظهر ?فيها ?الزجل ?المغربي ?محرزاً ?كيانه ?وخصائصه، ?والاختلاف ?الشكلي ?ظاهر ?بين ?اللونين»?. ثم إن العلامة المغربي ينفي كون القصيدة الزجلية محاكاة لفن التوشيح، إذ يقول: «ولسنا نستطيع القول كذلك بأنها محاكاة لفن التوشيح، لأنّا لا نعتقد ذلك حتى بالنسبة إلى نشأة الزجل في الأندلس». فهو يخالف ابن خلدون الذي يرى أن الزجل في المغرب استحدثه أهل الأمصار احتذاءً بالموشح الأندلسي. وأنا أشير في هاته المقالة إلى الدكتور عباس الجراري، لا بد أن أحيِّي هنا شموليته في كتاباته ومحاضراته خلافاً لأولئك الذين بتروا عن عمد عناصر فاعلة في كيان الأدب المغربي، ومنها الأدب الشعبي بمختلف صيغه الفنية وتعبيراته اللغوية واللهجية، ولقد كانت لذلك نتائج كارثية في قراءة أولئك الدارسين للمسار التطوري للأدب المغربي. فهو الذي كتب: «إن الأدب المغربي متسم بشيء من الشمولية. وقد حاولت في الكلية، ولا سيما في المرحلة الأولى لتأسيس الدرس الأدبي بكلية الآداب بفاس خاصة، إدخال مادة الأدب الشعبي والآداب المحلية الأخرى، لكني وجدت صعوبة كبيرة ومعارضة شديدة. ولا ننسى أن سنوات الستين ليست كسنوات آخر القرن العشرين أو هذه السنة. فالموقف كان شديداً ومتعصباً ضد كل ما هو عامي وضد ما هو شعبي أو محلي، من ثم كنت أتحايل على الدرس الأدبي المغربي، فأدمج فيه بعض النماذج إما من الشعر الملحون، وإما من الأمثال العامية، أو مما يتيسر من الآداب الشعبية التي عبرت عنها لهجات عامية».