عندما حاول والده استكشاف احتمالات الهجرة إلى إسرائيل من بولندا بعد خمس سنوات من قيام الدولة العبرية، توترت علاقة زيغموت بوالده، وكان آنذاك في الثامنة والعشرين من عمره. الوالد انحدر من عائلة يهودية غير متدينة بالأساس، اما الابن زيغموت الذي كان يومها شيوعياً صلباً متأثراً بأنتونيو غرامشي، فلم تخدعه الصورة الاشتراكية التي كانت إسرائيل قد سوقتها عن نفسها وبها اخترقت اليسار الأوروبي والعالمي لعقود طويلة وحشدت أنصاراً ظنوا فيها تمثلاً لنموذج المجتمع الاشتراكي الزراعي. منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته هذا الشهر، وهي مناسبة كتابة هذه السطور، بقي هذا اليهودي «الحالي» باقتباس عنوان الرواية الشهيرة للروائي اليمني القدير «علي المقري»، وأحد أهم رموز علم الاجتماع والحداثة في القرن العشرين، على موقفه الواضح من إسرائيل. انتقدها كثيراً وانتقد توظيفها للهولوكوست لتسويغ مشروعها الكولونيالي الاحتلالي، كما شبه جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية بجدار العزل الذي بناه النازيون حول غيتو وارسو. على كل حال ليس ما سبق أهم ما كان يميز باومان بل مجرد إشارة لافتة وذات خصوصية مطمئنة إلى البوصلة الأخلاقية والضميرية التي تحلى بها هذا المنظر الكبير. أهمية باومان الفكرية تتسع لتشمل نطاقات التنظير والتفكير في مصائر الإنسان في ظل تسارع مشروع الحداثة الهائل في القرنين الأخيرين، ثم تطورات ما بعد الحداثة. رأى باومان أن إنسان الحداثة استهلك من قبل أنظمتها الصارمة وقوضت قيمه وأهميته المركزية التي جاء بها مشروع التنوير الأوروبي. صار المشروع نفسه، التنوير وحداثته، أو الحداثة وتنويرها، هما مركز الوعي والحركة والعالم، عوض أن يكونه الإنسان، كما كان الوعد التنويري الأساسي. ضمن هذا السياق مركب الوعي أطلق باومان قنبلته الفكرية سنة 1989 والتي كانت كتاب «الحداثة والهولوكست»، وظلت تشظياتها وارتداداتها تتفاعل حتى وقتنا الراهن. في أطروحته «المتمردة» حول الهولوكوست، ينفك باومان من القراءات الغربية للتيار الرئيس لفهم المحرقة، والتي اعتبرت تلك الجريمة الإنسانية المهولة نتاجاً حصرياً للعداء التاريخي ضد اليهود في أوروبا. باومان يقول إن جذر الهولوكوست يقع في الحداثة نفسها. قبل باومان صدرت مئات الكتب والأبحاث التي حاولت فهم المحرقة من ذلك المنظور تحديداً، ومن مناظير أخرى أهمها كيفية قبول الألمان، سواء على مستوى الشعب أم النخبة، لفكرة إبادة جنس عرقي كامل يعيش بين ظهرانيهم. باومان ذهب في كتابه إلى مكان آخر تماماً وقلب كل المناظير، وإن كان بتطرف لافت أنتُقِدَ عليه كثيراً، خاصة من قبل مفكري مدرسة فرانكفورت النقدية، لكن بقيت نظريته ذات فائدة مهمة. عوض أن نوظف السوسيولوجيا ونظريات الحداثة لمحاولة فهم المحرقة، ولماذا حدثت وكيف تواطأت الأطراف المختلفة في تنفيذها، قال باومان إن الهولوكوست تقدم لنا فرصة لإعادة فهم الحداثة من منظور قدرتها على تهيئة المناخ للإبادات البشرية. أي أن الهولوكوست تكشف بشاعة الحداثة على عكس كل القراءات السابقة التي أرادت أن تفهم بشاعة الهولوكوست من خلال الحداثة. بالنسبة لباومان تقوم الحداثة على العقلانية الصارمة والتنظيم الدقيق وبرود التحليل العلمي وأخلاقية التكنولوجيا، وكل ذلك مجموعاً إلى ذاته يحقق غائية وجود الإنسان ومصالحه. في هذا النظام تنفصل الوسيلة عن الغاية بطريقة مركبة ومدهشة وأبعد بكثير من الفكرة الميكافيلية التقليدية التي تعلي من قدر الغاية وتبرر في سبيل تحقيقها أحقر الوسائل. هنا تصبح الوسيلة نفسها هي الغاية: أي أن مهارة تطبيق الأوامر، وكفاءة التنفيذ (تنفيذ حرق اليهود مثلاً) ومن خلال مراحل تبدأ بالترحيل في القطارات في مواعيد ثابتة، ثم تجميعهم في مرحلة الفحص الطبي، ثم التعرية الكاملة ومصادرة ممتلكاتهم الشخصية وتصنيفها (ساعات، مجوهرات، ملابس، الخ...)، ثم نقلهم إلى غرف الغاز وغسلهم بالماء أولاً، وبعدها تحديد كمية الغاز المطلوبة لكل غرفة، والبدء بالتنفيذ، ثم تجميع الجثث وحرقها، ودفن بقاياها، وهكذا. يقول باومان إن الدقة المذهلة في تنفيذ تلك الخطوات كانت لتدرس في الجامعات في مساقات الإدارة التنفيذية المتفوقة لو لم يكن موضوعها حرق وإبادة الناس. لكن الأهم من ذلك هو انصياع الضباط والجنود لتطبيق تلك المراحل بدقة عالية ومن دون أي إحساس بوخز الضمير. كانت كفاءة تنفيذ الأوامر، أي الوسيلة، هي الهاجس اليومي والروتيني الأكبر لآلاف الجنود والضباط الذين أشرفوا على الإبادة، انصياعاً لأوامر مرؤوسيهم. هؤلاء «الأدوات» هم ناس عاديون لهم زوجات وأبناء ويعيشون حياة عادية وربما «أخلاقية» على مستويات مختلفة، لكن «البيروقراطية الحداثية» فرضت عليهم سلوكاً يلتزم بالزي العسكري الذي ما أن يرتدوه حتى يتحولوا إلى آلات صماء تنفذ ما يطلب منها من دون مشاعر أو أحاسيس. باومان يعزو ذلك إلى نظام الحداثة وقيمها المادية التي تشتغل وفق مبدأ الفائدة والمصلحة وفقط. تصبح حياة البشر، تبعاً لذلك، مضبوطة وفق ترتيبات محددة ونظام يعين «الفائدة» من الأشياء والقيم.. وأصناف الإنسان. كل شيء تبهت فائدته ويصبح عديم الجدوى، بما في ذلك بعض أجناس البشر (كاليهود في الحالة النازية)، بما يستوجب إزاحتهم، وهذا مسوغ عقلانياً. الأخلاق والعواطف والأحاسيس لا مكان لها في منظومة قائمة على «تسليع» الأشياء والإنسان أيضاً. كل شيء أو إنسان له قيمة محسوسة وملموسة، إن فقدها لا مبرر لوجوده. هذا التفسير في فهم الحداثة هو ما اعتمده باومان، ورأى أنه تجسد في النظرية النازية التي رأت أن اليهود في ألمانيا وأوروبا لاحقاً جنس يشكل عبئاً على التقدم الإنساني وتجب إبادته، ومعهم المسلمون والغجر والمعاقون وذوو الأمراض العصية و«الشاذون جنسياً»، بحسب ما كان يرى هتلر. قائمة الأجناس «غير المفيدة» كانت طويلة على الأجندة الهتلرية، ويتوجب تطهير «الحيز الحيوي» منها حتى يتقدم العالم بقيادة الجنس الآري الذي أثبت علماء الإنثروبولوجيا النازية لهتلر أنه الجنس الأصفى والأرقى بين الأجناس البشرية كلها، ووحده يستحق قيادتها. أنجز باومان في حياته أكثر من خمسين كتاباً احتل العديد منها قلب السجال الأكاديمي في الموضوعات التي تصدى لها: في الحداثة الصلبة والسائلة، في ما بعد الحداثة وأيديولوجيا الاستهلاك، في دور المثقفين وموقعهم في مجتمعاتهم. والموضوع الأخير وحده حيث تعمق في اختبار وتحليل المثقف «التبريري» والمثقف «المشرعن» للسلطة والثقافة السائدة في أحد كتبه ظل واحداً من أهم القراءات المُعمقة لمسألة المثقف ودوره، وقد تطرق إليه إدوارد سعيد في كتابه عن «تمثلات المثقف». يغيب باومان ويترك وراءه إرثاً فكريا بالغ النضارة والإثارة.