في هذا الوقت، وقبل بداية فترة رئاسة ترامب، فإنه من الواضح أن العلاقات الأميركية الصينية تواجه مشكلة من نوع ما غير هينة. فالاختلاف والتوتر بين الدولتين يتفاقم بسرعة حول العديد من القضايا والملفات، خاصة منها ما يتعلق بالتجارة والعلاقة مع تايوان والنزعات الإقليمية والتحركات العسكرية في بحر الصين الجنوبي.. وكلها من القضايا الشائكة التي يصعب الوصول فيها إلى حلول مُرضية، على الرغم من أن التحكم فيها أمر ممكن وضروري في الوقت ذاته. والآن، تأتي الإدارة الجديدة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، والتي تشكلت على عجَل، وهي لا تمتلك أي «مادة لاصقة» تكفي لرأب الصدع الذي يعتري تلك العلاقات. وهي تحتاج لابتداع بنية تحتية ضخمة من أسس التعاون المشترك بين البلدين، إذ إن ذلك هو الحل المنشود لتعزيز التفاهم والتعاون الصيني الأميركي. وخلال السنوات الثماني الماضية، عندما انزلقت الأمور بطريقة خاطئة باتجاه التوتر في قضايا مختلفة، فإن التعاون الأميركي الصيني في قضية التغير المناخي، كان يحقن تلك العلاقات ببعض الهدوء. وعلى سبيل المثال، وفي عام 2014 تحديداً، عندما تصاعدت حدّة التوتر بين واشنطن وبكين بسبب إعلان الصين عن ملكيتها لجزر متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، صدر في بكين بيان مشترك عن الرئيسين باراك أوباما وتشي جينبينج حول التغير المناخي! وبعد ذلك، وتحديداً في شهر سبتمبر 2015، عندما بلغ الخلاف بين البلدين ذروته على خلفية «مواجهة تقنية» نجمت عما يُعتقد أنه هجوم افتراضي صيني على «المكتب الأميركي لإدارة شؤون الموظفين»، سارع رئيسا البلدين مرة أخرى إلى تنفيس الاحتقان بإصدار بيان مشترك جديد من واشنطن هذه المرة حول التغير المناخي. ويبدو كأن التغير المناخي أصبح يمثل علاقة شخصية بين الرئيسين أكثر من أي قضية خلافية أخرى. وحتى في لقاءات القمة الأخرى التي جمعت الرئيسين، في يونيو 2013 في مزرعة سانيلاند بولاية كاليفورنيا، وفي مارس 2016 في واشنطن، وفي سبتمبر 2016 في مدينة هانجزهاو في الصين.. كان تحقيق تقدم في الاتفاق حول التغير المناخي يمثل نقطة الاختراق الوحيدة لتحسين العلاقات بينهما. وتتجلى من كل ذلك الحقيقة التي تفيد بأن القضية الوحيدة التي كانت تحظى برغبة الطرفين في تعزيز التعاون بشأنها خلال كل اجتماعات القمة التي عُقدت بينهما، هي قضية التغير المناخي. ومع اقتراب موعد دخول ترامب إلى المكتب البيضاوي، سوف نشهد تغيراً حاسماً في هذا المشهد برمته. فقد سبق لترامب أن أعلن بكل وضوح عن أن التغير المناخي لن يمثل أولوية في سياسة إدارته. وخلافاً لما يراه الرئيس أوباما من أن سياسات المناخ تمثل محركاً أساسياً للنمو الاقتصادي في العالم، فإن ترامب يرى أنها لا تشكل إلا أدوات معيقة للنمو. وخلال حملته الانتخابية، لم يعلن ترامب عن أي سياسات تتعلق بالمناخ، بل أعلن عن نيته سحب موافقة الولايات المتحدة على اتفاقية باريس المناخية وإيقاف العمل بالعديد من القوانين واللوائح التنظيمية ذات العلاقة بالمناخ، والتي تم تشريعها خلال السنوات القليلة الماضية. ويأتي تعيين مجموعة من الشكّاكين بقضية التغير المناخي، من أمثال سكوت برويت لرئاسة وكالة حماية البيئة، وحاكم تكساس السابق ريك بيري وزيراً للطاقة، والمدير التنفيذي لشركة «إكسون موبيل» ريكس تيلرسون على رأس الدبلوماسية الأميركية.. لتوحي جميعاً بأن المناخ لن يكون موضوعاً أساسياً يشغل البال في أروقة البيت الأبيض. أما بالنسبة للصين، فلن يكون من العسير عليها تقبل هذه النهاية السريعة للتفاهم الأميركي الصيني حول المناخ، خصوصاً لأنها تعتقد أن قضية المناخ يمكن أن يُستبدل بها عنصراً آخر أكثر أهمية للتقارب بين البلدين. ولو استبعدنا مبدأ «الكياسة الدبلوماسية» من هذا الموضوع، فسوف نلاحظ أن القيادة الصينية لا تهتم قيد أنملة بالمشاكل المتعلقة بالمناخ. ولم يكن اهتمامها بالموضوع في ما سبق إلا من قبيل الرغبة في أن تُظهِر للعالم أنها بلد يتحلى بالمسؤولية، وأيضاً حتى تُظهر للشعب الصيني ذاته أنها تفعل شيئاً ما للحدّ من مشكلة تلوّث الهواء التي تمثل معضلة كبرى في المدن الصينية. وتفضل بكين السياسات البيئية التي يمكن أن تساعدها على حل مشكلة تلوث الهواء وتقدم لها فوائد تنافسية في حقول صناعية جديدة مثل تصنيع المنتجات بوساطة ما يعرف باسم «الطاقة الخضراء»، أي باستخدام مصادر الطاقة التي لا تضرّ بالبيئة والتي تلقى رواجاً كبيراً في الدول الغربية. وفي مقابل ذلك، ترفض الصين تلك المعايير والإجراءات، كتلك التي تقودها الولايات المتحدة لمنع البنك الدولي من تمويل مشاريع بناء محطات الطاقة الكهربائية التي تعمل بحرق الفحم الحجري، بدعوى أن لها تأثيراتها المعيقة على اقتصادها. لكن، ومع هذه اللا مبالاة التي تُبديها إدارة ترامب حيال قضية المناخ من جهة، وحيال التوتر الذي من المنتظر أن يتفاقم بسبب قضايا أخرى مثل التجارة الدولية والوضعية السوقية للعملة الصينية من جهة ثانية، فسوف تلاحظ الصين أن علاقاتها مع الولايات المتحدة باتت في مواجهة احتمالات التعرض لنكسات متلاحقة. وقد أصبح البلدان بحاجة إلى مادة لاصقة خارقة «سوبر جلو» تكفي لربط علاقات التعاون بينهما إلى الحد الذي يعكس اهتمامهما بوجود أقل ما يمكن تصوّره من قواسم مشتركة في تطلعاتهما السياسية على المستوى العالمي. فما هذه المادة اللاصقة الخارقة المطلوبة؟ بما أن البلدين يمثلان أكبر اقتصادين في العالم ويستأثران بنصف النمو الاقتصادي العالمي، فإن الصين والولايات المتحدة لهما مصلحة مشتركة في تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز الأمن العالمي للطاقة، من خلال تطوير البنى التحتية لعلاقاتهما. وبالفعل فقد عبّر الرئيسان «تشي» و«ترامب»، وإنْ بشكل منفصل، عن اهتمامهما بتطوير البنى التحتية. وكان ترامب قد أعلن عن نية العمل على عصرنة البنى التحتية الأميركية، فيما كان العماد الأساسي لسياسة «تشي» الخارجية يرتكز على المشروع الطموح الذي تبلغ تكلفته بضعة تريليونات من الدولارات ضمن خطة لتطوير البنى التحتية تحت شعار «حزام واحد، طريق واحد» تهدف إلى ربط الصين بأوروبا بشبكة من الطرق الواسعة وخطوط القطارات السريعة وأنابيب نقل النفط والغاز والموانئ ومحطات نقل الطاقة وخطوط الألياف البصرية. وعمدت بكين بالفعل إلى إنشاء المؤسسات المالية المتخصصة في تنفيذ المشروع وعلى رأسها «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية» و«صندوق طريق الحرير» لتمويل تلك المشاريع. وأصبح القصور العالمي للبنى التحتية، خصوصاً في بلدان العالم النامي، ينذر بالخطر. وحتى الآن، وعلى الرغم من أننا نعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لا يزال ثلث البشرية يعاني من عدم القدرة على الحصول المتواصل على الكهرباء وخدمات الصرف الصحي، ولا يزال هناك أكثر من مليار إنسان عبر العالم لا يستفيدون من خدمات الهاتف. وكانت إدارة أوباما تتعامل مع المبادرات الصينية لتطوير البنى التحتية بشيء من التجاهل في معظم الأحيان، وباستخدام تكتيكات القوة الناعمة (التي أثبتت فشلها) لتقويض المشاريع الصينية في بعض الأحيان. إلا أنه من الضروري الآن إقناع ترامب بسلوك طريق مغاير في هذا الشأن. ونظراً إلى أنه كان «بنّاءً ماهراً» خلال فترة حياته العملية كلها، وهو الذي اعتاد على الانبهار بالمشاريع البنائية العملاقة، فربما يجد في مشروع «حزام واحد، طريق واحد» ما يثير إعجابه. ويمكنه أن يقتبس منه نسخة أميركية مشابهة من أجل تطبيقها في مشاريع تطوير البنى التحتية في بعض دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وقبل عام بالضبط، وخلال خطاب ألقاه الرئيس «تشي» في حفل افتتاح «البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية»، أكد أن «باب الصين المفتوح لن ينغلق أبداً، وأن الصين ترحب بكل الدول التي تسعى للتطور». جال لوفت: عضو الهيئة الإدارية لـ«معهد تحليل الأمن الدولي» ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرغ نيوز سيرفس»