من يقود مجتمعات العالم العربي والإسلامي اليوم، الرجال أم النساء؟ رجال السياسة، أم رجال الاقتصاد والإنتاج، أم رجال الدين، أم رجال الثقافة؟ من الأعلى صوتاً والأكبر تأثيراً والأكثر هيمنة على عقول الناس وقيمهم وتوجهاتهم؟ مِنْ أبرز نواحي خسارتنا «الجولة الأولى» في المعركة الحضارية، عدم هيمنة الفكر الإنتاجي وقيم العمل والإتقان، على حياة ملايين الناس، إلى جانب ما نرى في كل مجتمع من قيم سياسية ودينية واجتماعية مهيمنة.. فهؤلاء جميعاً يعتبرون العبادة عملاً، ولكن كم منهم يعد العمل كذلك عبادة؟ هل العمل والإنتاج والحرص على ارتفاع الإنتاجية وجودة المنتج شيء مقدس في تقاليدنا وفكرنا الجمعي، كبعض المقدسات الأخرى في تقاليدنا وفرائضنا الدينية مثلاً؟ ولماذا فشلت مناهجنا الدراسية وتوجيهاتنا الدينية في أن تجعل العامل والموظف والطبيب والمحامي والمدرس والتاجر والصانع، رجالاً ونساءً، بمستوى قرينه الأوروبي أو الأميركي أو الصيني والياباني؟ وهل من يهمل واجباته الوظيفية مثلاً، أو يخلط القمح بالشعير وربما بالتراب والحصى في عمله، يجد نفسه معزولاً متهماً بالتقصير الاجتماعي والديني والأخلاقي؟ هل ضميرنا الوظيفي.. بخير؟ لماذا إذن الإنتاجية في الحياة الاقتصادية العربية والإسلامية متدنية إلى هذا الحد، ولماذا لا تنجح أي دولة منها في الوصول إلى ميادين المنافسة الدولية كما بعض دول آسيا وأوروبا؟ لماذا مثلاً مشكلة «التمارض» بهذه الحدة في الحياة الوظيفية الخليجية مثلاً؟ صدر في مصر عام 1893، قبل أكثر من قرن، كتاب عن ظاهرة التمارض هروباً من التجنيد بعنوان «التحفة العباسية في الأمراض التصنعية والادعائية». وفي فبراير 2006، أعلنت وزيرة التخطيط الكويتية، د. معصومة المبارك الحرب على الظاهرة، محاولة ضبط هذا التسيب الوظيفي. وقد زالت وزارة التخطيط الكويتية عن الوجود! بينما لا يزال الغياب والتمارض وغياب الموظفين ظاهرة مستمرة تشتكي منها الصحافة وتعميمات المسؤولين.. بلا فائدة! وفي المملكة العربية السعودية، كما جاء في صحيفة «الحياة»، «توعدت مديرية الشؤون الصحية بمنطقة مكة المكرمة منسوبيها باتخاذ عدد من الإجراءات الحاسمة ضد الإجازات المرضية التي يتقدم بها موظفو القطاع الصحي، كاشفة عن تشكيلها لجنة خاصة للتثبت من تقارير الإجازات». (30 - 06 - 2015). لماذا يحاول بعض الموظفين في القطاع الصحي، وعلى مقربة من «البيت الحرام»، التهرب من أداء الواجب الوظيفي، ومخادعة الأطباء والرؤساء والمسؤولين، وترك مواقع العمل، ولا يجدون في هذا شيئاً من «الحرام أو المكروه أو المعصية»؟ قرأت في كتاب بعنوان «الإنسان الأميركي» لبراد فورد سميث، Why We Behave Like Americans، صادر عام 1957، أن الولايات المتحدة - قبل ستين عاماً عام 1957 - تعيش من الناحية الإنتاجية، «في عصر ثوري»! ويعدد المؤلف أسباب هذه الطفرة الاقتصادية، ويرى من بينها «نسبة إنتاج العامل». وفي نظرة تحليلية للإنتاجية في الولايات المتحدة يقول، والكلام عام 1957، وكان سكان أميركا نحو 170 مليون نسمة، «إن الولايات المتحدة، وعدد سكانها لا يزيد على سبعة في المائة من مجموع سكان العالم، تنتج نحو أربعين في المائة من إنتاج العالم كله، ولو وزعنا الإنتاج القومي على عدد السكان لبلغ ما يخص الفرد الأميركي ضعفي ما يخص الفرد في أضخم الدول إنتاجاً في أوروبا، ولبلغ عشرة أمثاله في إندونيسيا. لقد بلغ الإنتاج القومي الحقيقي الصافي للولايات المتحدة في عام 1940 خمسة أضعافه في عام 1890 وزيادة الإنتاج مستمرة على هذا المعدل حتى يتزايد إنتاج السلع وتتوافر الخدمات، كما أن مستوى الدخول يتضاعف لاستيعاب هذا الإنتاج، بل إن الإنتاج لكل وحدة عمل يزيد بنسبة اثنين في المائة سنوياً طوال السنوات الثمانين الماضية». من جانب آخر، يقول المؤلف «زادت الطاقة المحركة بالنسبة لكل فرد من أفراد الشعب بمقدار أربعين ضعفاً. وفي عام 1910 كانت نسبة العمال واحداً وعشرين في المائة من مجموع القوى العاملة، أما في عام 1940 فقد كانت النسبة أحد عشر في المائة فحسب، وبذلك يكون الإنتاج في زيادة مستمرة وبأقل جهد في القوى العاملة». وفي المجال الزراعي، كانت الحاجة تدعو عام 1820 إلى 72% من مجموع القوى العاملة للعمل في الزراعة وتوفير الغذاء للأمة «بينما في عام 1950 كانت نسبة العاملين في الزراعة 11% فقط من مجموع القوى العاملة». (ص 231 - 232). لنسأل أنفسنا بعمق، في العالم العربي: لماذا الإنتاجية الصناعية والزراعية والوظيفية في مصانعنا وحقولنا ومؤسساتنا بهذا الضعف، ولماذا نجحت الشعوب المتقدمة في قفزاتها الاقتصادية؟ من حقاً يقود مجتمعاتنا؟ وإلى أين؟ فالتقدم أن تبدأ من حيث تقف، دون أن تبقى في مكان! ونحن لا نبقى في مكاننا.. ولكننا نتراجع!