ما من شك في أن حياتنا صارت مسيسة بشكل أو بآخر، فقد أصبحت السياسة متداخلة مع الكثير من سلوكنا، وعاداتنا اليومية، وامتدت ذراعها، فطوقت كل ما كنا نعتقد في الماضي أنه بعيد عنها كل البعد. وعملية تسييس الظواهر الاجتماعية كانت هي الآلية التي ميزت علم السياسة في القرن العشرين عن القرون التي خلت، فقديماً كان هناك فرق واضح بين السياسي والأخلاقي. فالإجهاض، مثلاً، كان في القرن الـ19 مسألة أخلاقية، وكان وضع الأسرة ومسائل الصحة والتربية بعيداً عن اهتمامات السياسة، باسم احترام الحياة الخاصة. أما في القرن الـ20، فتم توسيع ميدان السياسة، ليشمل كل المسائل السابق ذكرها، وامتدت شبكة التفسير السياسي إلى النشاطات الإنسانية كافة، بل وصلت إلى الظواهر الطبيعية. فعدم هطول المطر، أو وقوع الزلازل، يبدو لأول وهلة أمراً بعيداً عن السياسة، لكن إعادة النظر في هذه المسألة سيقود إلى نتيجة مفادها أن السياسة تقع في قلب هذه الظاهرة الطبيعية. فبعض الناس يعتقدون أن هذه الكوارث نجمت عن غضب الله سبحانه وتعالى على السلطة، لظلمها وفسادها، وفي كل الأحوال فإنهم سيلجؤون إلى السلطة لتنقذهم مما حل بهم من خسائر، وعليها أن تستجيب، في هذه الأوقات الحرجة، حفاظاً على الشرعية وضماناً للاستقرار السياسي. إن سؤالاً مثل: هل موسيقا موزار ذات طابع بورجوازي قد يبدو، لأول وهلة، أمراً عبثياً، لكن إمعان النظر فيه يمكن أن تنجم عنه نتائج محددة إذا ما تمت الإجابة عنه بنعم. وقد وصل الأمر بعلماء السياسة إلى البحث عن الجوانب الجيوسياسية في كرة القدم، ففي كتاب صدر عن أحد المراكز الاستراتيجية الفرنسية، شاركت في إعداده نخبة من الباحثين، تم التعامل مع هذه اللعبة على أنها متابعة الحرب بوسائل أخرى، وهذا هو الوصف الذي كان المنظر الاستراتيجي «كلاوزفتش» قد أطلقه على السياسة وأنها صارت الظاهرة الأكثر كونية في عصر العولمة، إذ تبدو أشمل من اقتصاد السوق وعملية الدمقرطة، وصارت إحدى الأدوات القوية في الدبلوماسية الدولية، حيث يمكن، في رأي هؤلاء، أن تساهم في توحيد شطري كوريا أو دفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يمكن أن تكون إحدى وسائل تحقيق الوحدة الوطنية في البلاد متعددة الأعراق واللغات والديانات، حيث تتضافر مختلف الجماعات حول المنتخب الوطني، الذي يعد رمزاً تعلق عليه الأمة بعض آمالها، خاصة إذا كان يضم تحت لوائه لاعبين ينتمون إلى هذه الجماعات. وتنبع هذه التصورات من شيئين أساسيين، الأول: أن العملية السياسية تبدو معقدة للغاية، نظراً إلى تداخلها الشديد مع حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى، ويأتي التحليل ليبسطها عبر نماذج تأخذ أشكالاً مختلفة تتراوح بين الكلام اللفظي الصرف والحسابات الرياضية الدقيقة، والثاني: أنها عملية تتسم بالشمول، إذ إن كل النشاطات البشرية قابلة للتسييس عندما تدخل في صميم اهتمامات السلطة السياسية. وعندما يربط الإنسان فكرياً بين ظاهرة ما والنظام السياسي تكتسب تلك الظاهرة معنى سياسياً، بحيث يصبح كل نشاط بشري عملاً سياسياً، في ضوء تطور الواقع الاجتماعي، اقتصادياً وتقنياً، أو على حد قول روبرت دال: «سواء شئنا أم لم نشأ فلا يوجد أحد قادر على أن ينأى بنفسه عن الوقوع في دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسي ما. فالمواطن يتعامل مع السياسية عند تصريف أمور الدولة، المدينة، المدرسة، الكنيسة، الشركة، النقابة، النادي، الحزب السياسي، الجمعيات التطوعية، وغير ذلك من منظمات عديدة أخرى. فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني، لا يمكن تجنبها. وكل فرد يجد نفسه مشتركاً بطريقة ما، في لحظة ما، في شكل من أشكال النظم السياسية.. وإذا كان المرء لا يمكنه تجنب السياسة، فإنه بالضرورة لا يمكنه تجنب النتائج المتولدة عنها». وحتى الأدب والفن يجدا نفسيهما، بوصفهما ظاهرة اجتماعية، متماسين مع العملية السياسية، فهما أقرب إليها من نشاطات إنسانية أخرى. ويصل الأدب أحياناً إلى درجة أنه يبدو نوعاً من الممارسة السياسية، ويصبح الأديب رجل سياسة، لكن بطريقته وأدواته الخاصة. وقد لخص نجيب محفوظ هذا الموقف في عبارة بليغة قال فيها: «ليس هناك حدث فني، بل حدث سياسي في ثوب فني». وليس معنى هذا أن محفوظ يقر بليّ عنق الأدب لخدمة أيديولوجيات معينة بما يقضي على الجانب الجمالي فيه، لكنه يتحدث عن حضور السياسة كسياق عام، وممارسة اجتماعية في النص الأدبي، أي يشير إلى تأثير الواقع المعيش في الأدب. ففي كل الأحوال لا يجب أن يتحول الأدب إلى أيديولوجيا ولا بيان سياسي ولا وعظ وخطابة ودعاية، فهذا يخرجه من دائرة الفن تماماً.