هل سلوك النظام الإيراني مرتبط بشخص مثل رفسنجاني أم له أبعاده الأخرى؟ نعود لهذا السؤال مع القارئ الكريم لاحقاً، وننطلق الآن لقراءة أهم حدث وقع في إيران خلال اليومين المنصرمين. فإثر سكتة قلبية غاب عن الساحة السياسية في إيران «رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام» هاشمي رفسنجاني عن عمر يناهز الـ82 عاماً، ليترك بعده العديد من التساؤلات عن الفراغ الذي سيُحدثه غياب هذه الشخصية وتداعياتها على المشهد الداخلي والخارجي. بدايةً يعتبر رفسنجاني من الرموز المهمة في التيار الديني، والذي ساهم بقوة في نجاح ثورة عام 1979م. تولى العديد من المناصب، ففي فترة الثمانينيات ظل رئيساً للبرلمان، لينتقل بعدها إلى رئاسة الجمهورية لدورتين والتي عرفت بفترة إعادة البناء والتعمير فترة التسعينيات، والتي تطلبت بدورها انفتاحاً على الجوار الإقليمي والدولي. وبالنظر إلى العلاقة بين رفسنجاني وخامنئي فقد ظلت قوية فترة الثمانينيات، حيث ساهم رفسنجاني بصورة كبيرة في وصول خامنئي إلى منصب المرشد الإيراني. بعد وصول رفسنجاني لرئاسة الجمهورية شهدت العلاقة نوعاً من توازن في القوى بين الطرفين، وخلال تلك الفترة كان خامنئي يسير شيئاً فشيئاً نحو تعزيز موقفه ليصبح مكتب المرشد أداة الوصل بينه وبين المؤسسات المختلفة، ولاسيما الحرس الثوري. مع نهاية الدورة الرئاسية الثانية لرفسنجاني تم تعيينه رئيساً لـ«مجمع تشخيص مصلحة النظام»، والذي اتضح من خلال الممارسة العملية أنه مجلس لا يملك الصلاحيات، بل تعمد المرشد الإيراني تجاوزه باستصدار قرارات تهمش ذلك المجلس. كما تجلى الشقاق بين المرشد ورفسنجاني في الانتخابات الرئاسية التاسعة بفوز أحمدي نجاد على رفسنجاني، وليأتي المرشد الإيراني من جديد في انتخابات الرئاسة العاشرة، ليعلن أن أفكار ورؤى الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد أقرب إليه منها لرفسنجاني، الذي حُرم بعدها من خطبة الجمعة. وخلال تلك الفترة أعاد رفسنجاني إحياء فكرة أن يكون في إيران مجلس للفقهاء بدلاً من أن يكون الأمر مرتهناً بيد شخص واحد، وهو أمر اعتبر موجهاً مباشرة ضد المرشد الإيراني، الذي ضيّق الخناق على رفسنجاني وأنشأ مجلساً لحل الخلافات بين السلطات برئاسة «شهرودي» رئيس السلطة القضائية سابقاً، وبالتالي مزيد من التهميش لرفسنجاني الذي هُوجم كذلك من قبل الرئيس السابق أحمدي نجاد. لعب رفسنجاني دوراً كبيراً في وصول روحاني إلى الرئاسة، وذلك بعد إقناعه لمحمد رضا عارف بالانسحاب. جاء ذلك بعد رفض مجلس صيانة الدستور لأهلية رفسنجاني لخوض الانتخابات الرئاسية. استطاع هاشمي رفسنجاني بتعاونه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني إزاحة كل من الأصولي «محمد يزدي» و«مصباح يزدي» من الفوز في انتخابات مجلس الخبراء، كما جاء «أحمد جنتي» رئيس مجلس صيانة الدستور في ذيل قائمة مرشحي طهران لمجلس الخبراء. ما تقدم لم يكن ليُرضي المرشد الإيراني الذي اجتمع بأعضاء مجلس الخبراء في دورته السابقة والحالية، ليعلن ضرورة مُضي إيران في نهجها الثوري ليأتي أحمد جنتي متذيل القائمة ويصبح رئيس مجلس الخبراء. وبالرغم من صعوبة توصيف رفسنجاني على أنه ضمن التيار «الإصلاحي»، فإنه يتضح جلياً أنه ابتعد كثيراً عن ما يطلق بالتيار الأصولي الذي يمثله المرشد والحرس الثوري. كما أن الحديث عن رفسنجاني لا يعني الحديث فقط عن شخصه وثروته، بل عن تلك الشخصية القادرة على حشد العديد من الرموز والقوى خلفها، والدليل على ذلك نتائج قائمة طهران، سواء للبرلمان أو مجلس الخبراء الأخيرة. وبالرغم مما تعرض له رفسنجاني من هجوم من قبل التيار الأصولي ومنابره الإعلامية وكذلك تهميشه من قبل المرشد ومؤسساته، فإنه ظل على الدوام مصدر قلق حقيقي للمرشد. فوجوده في حد ذاته كان داعماً قوياً للتيار المعتدل والإصلاحي، وكان دائماً مصدر قبول وتوافق بين رموز ذلك التيار، حيث كان من المتوقع أن يكون داعماً رئيسياً لروحاني في الانتخابات الرئاسية في مايو المقبل، والذي صرح بأن فوز روحاني مضمون. وبالتالي فإن تداعيات رحيل رفسنجاني في الساحة السياسية الإيراني في الداخل، ستكون مؤثرة وبصورة سلبية على التيار «الإصلاحي» والمعتدل. ولا تزال الفترة الرئاسية لرفسنجاني في تسعينيات القرن الماضي توصف على أنها فترة اعتدال وانفتاح على دول الخليج، وأن الفضل يعود له في ذلك. وهو أمر فيه جانب من الصحة، غير أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل ذلك عن معطيات تلك الفترة ومصلحة النظام الإيراني التي تطلبت انفتاحاً على الخارج لإعادة الإعمار والبناء، كما هو الحال بالنسبة لاتفاق البرنامج النووي والسعي إلى التخلص من العقوبات الاقتصادية. وعلى الرغم من نهج رفسنجاني المعتدل إلى حد ما في تعاطيه مع المنطقة، فإن ذلك لا يعني أنه أتى على حساب المصالح الاستراتيجية للنظام الإيراني، والذي يمارس سياسة الاعتدال والتشدد وفق مقتضيات المصلحة. ففي مقابل ذلك الانفتاح لم يتوقف النظام الإيراني من خلال أجهزته ومؤسساته الأخرى عن الاستمرار في مخططاته الساعية لتعزيز نفوذه في المنطقة، فما نشهده الآن من تغلغل في المنطقة هو نتاج لسنوات مستمرة دون انقطاع، ويكمن الفرق فقط ما إذا كان ذلك على السطح أم طافياً في العمق. ونعود من جديد مع القارئ لنطرح هذا التساؤل عن تداعيات وفاة رفسنجاني على المستوى الإقليمي ونقول: وهل سلوك النظام الإيراني مرتبط بشخص مثل رفسنجاني أم له أبعاده الأخرى؟ الإجابة عند القارئ الكريم.