تتمتع أميركا بقدرة فائقة على تجنيد حكومات بأكملها واختراق الداخل لأي دولة في العالم مهما بلغت قوتها وتحريك المياه الراكدة وقلب الموازين بطرق لا تخطر على البال، ويجب أن نحترم الجانب الأميركي لتلك الإمكانات الهائلة وإنْ كنّا نشجب شعارها الأبدي (الغاية تبرر الوسيلة)، ونشجب تورطها غير الأخلاقي في كل بقعة من الأرض وخاصة بعد عودة عمليات الاستخبارات الأميركية المركزية (CIA) إلى الواجهة مجدداً، وهي أكثر حداثة وفاعلية، وقادرة على إنتاج مزاعم وسيناريوهات محكمة منتشرة في العالم، وصياغة تهم وتوفير أدلة مصنوعة صناعة متقنه لدرجة أن تتم عمليات تصفية كبرى، ولا تجد نقطة أو أثراً واحداً على الوجود الأميركي، بل تجد أثراً ودلائلَ تورط الغير في تلك العمليات، وأميركا لا تستحدث أمراً جديداً أو غريباً على الأقوى على مدار التاريخ البشري. وبما أن الولايات المتحدة تملك طرقها الخاصة للسيطرة على المنظمات الدولية بشتى أنواعها وتشكيل لجان دولية لا تخرج عن عصا الطاعة الأميركية، وفي المقابل تحاول الصين وروسيا الاستمرار في استخدام قوة الاعتراض، وقمع أي استجابة للصراع السوري تقع خارج إطار مصالحهما. وتعد هذه الدول الثلاث صاحبة مواقف مناهضة للإجراءات التابعة للأمم المتحدة عندما لا تتناسق مع رؤاها السياسية، ولها حضور مؤثر في المنظمات الدولية الرئيسة التي تعمل خارج نطاق الأمم المتحدة بمبدأ (مسؤولية الحماية) وقوة التحالفات، وهي خليط بين «القوى الناعمة» و«الصلبة»، وتحييد كامل لإرادة المجتمع الدولي، الذي أدمن الإدانات والمؤتمرات الصحفية. ومن الواضح أن الولايات المتحدة لا تريد أن تتورط في سوريا مع ارتفاع تكلفة الحروب إلى أرقام لها تأثير مباشر في مستوى المعيشة الأميركية، ولا تجد دعماً شعبياً في الداخل، وفي الوقت نفسه تحتاج أميركا إلى كسب ما يقارب 1 تريليون دولار كأرباح تعويض يجب أن تجنيها من ويلات الآخرين وتسليح جماعات معينة بعد أن نجحت في إيجاد بديل لبعبع الشيوعية وتحويل الجغرافيا السياسية إلى جغرافيا الميليشيات العابرة للقارات. والحقيقة المحزنة في العلاقات الدولية هو أن السلام مرتبط بالمصالح، ومقياس الربح والخسارة، وروسيا ليست الطرف الوحيد في اللعبة وسلوكها متعارف عليه ضمن ترسانة عنجهية مشتركة بين القوى العظمى وسياسة الرئيس أوباما في عدم التدخل في سوريا، باستثناء الحملة ضد «داعش» وتمويل وتدريب ودعم المعارضة المسلحة، حيث إن التدخل في مثل هذه الصراعات أساسه المصلحة الوطنية وليس الأخلاق والقيم الإنسانية، مع الوضع بعين الاعتبار أن سوريا لها قيمة استراتيجية كبرى للولايات المتحدة، والحرب لا تمثل تهديداً وجودياً لأميركا، بل على النقيض لها بعض الفوائد من وجهة نظر واشنطن، حيث من جهة استنزاف «حزب الله» وإيران، وروسيا مالياً وعسكرياً، ووقف قطار التنمية التركية وكسر قوة ما يُطلق عليهم الأميركيون «الجهاديين السُنة» من جهة أخرى، وبالتأكيد هو سيناريو مثالي ومرحب به في واشنطن. فأميركا في الواقع لا تريد المواجهة مع روسيا والصين، وأقنعت تركيا أن التقرب منها الملاذ الأكثر ملاءمة لها، وحيث إن مصالح روسيا لا تتوقف عند الحدود التركية، بل تمتد إلى جيران تركيا وإيران وتحجيم النفوذ الإيراني والتركي في تلك الدول وهي الحسبة التي لا تغيب عن عيون وحسابات الروس والأميركيين معاً إلى جانب سعي روسيا إلى إجراء تسوية نهائية في موسكو، والتي تضمن مصالح روسيا وعودتها من الباب الكبير كقوى عظمى دون أن تخسر أميركا الكثير ما دامت بحيرات النفط والغاز في العالم والممرات الأكثر حيوية تحت قبضتها بطرق مباشرة وغير مباشرة بجانب قدرتها على الضربة العسكرية المؤثرة في جميع أنحاء العالم، وفي سوريا من خلال قاعدتها في الحسكة على وجه التحديد. ويعتقد الأميركيون أنهم أوقعوا الروس في الفخ، وهو ردع ناعم غير مباشر مع الانخراط الصيني في المغامرات، وهو يُشكل تحدياً مباشراً للقيادة الأميركية في إدارة الأمن العالمي والحفاظ على احتكار استخدام القوة، ولهذا ما ستخسره الولايات المتحدة في الصراع السوري، هو تشجيع الحلف- الروسي الصيني على تكرار السلوك في مكان آخر في العالم، وخاصة أن بكين عازمة على اختبار قدرة الولايات المتحدة على مواجهة مطالبها في بحر الصين الجنوبي، وقبول تقاسمها بساط الهيمنة وبناء سور صيني عظيم معاصر يجعل حدود الصين أينما تقف طموحاتها ومصالحها واستثماراتها.