كثيرة هي الأسئلة المشروعة التي يطرحها طلبتنا في الجامعات العربية عندما يدرسون قواعد العلوم السياسية، وبالضبط فيما يتعلق بمدى استقامة وجود الأحزاب الإسلامية في المجال السياسي العام، خاصة إذا استحضروا مفهوم الآيديولوجيا ومفهوم السياسة الواسع والذي يتسع لكل ما له صلة بالظاهرة السياسية. ولكن دعونا في هاته المقالة نستحضر بعض المفاهيم بالتدقيق حتى نبتعد عن الشعارات الرنانة والمزالق الفكرية الخاطئة التي لوثت ولا تزال الحياة السياسية في العديد من الأقطار العربية إلى حد أن البعض منها دخل في حروب أهلية وتشرذم وخراب، ستترك آثاراً مدمرة على أجيال متعاقبة. فالمشكلة عندنا نحن أننا نستعمل أدوات السياسة في بناء الدول، ولكننا لا نستعمل منها إلا القشور أو لنقل الكلمات دون المضامين، وهو ما يجعل المجال السياسي العام مصاباً بأمراض عضال حتى إذا دخل إليه فاعل سياسي صحيح البنية والفكر، سريعاً ما يتأثر بفيروساته لينتقل إلى مرحلة التداوي الشخصي ومقاومة ما لا تمكن مقاومته. إن كلمة آيديولوجيا في المجال السياسي العام تعني لغوياً، في أصلها اللاتيني، علم الأفكار، لكنها لم تحافظ في تجلياتها في الأدبيات الفكرية والسياسية على هذا المعنى القديم. فيقال الحزب الفلاني يحمل آيديولوجيا معينة ونعني بها مجموع القيم والأخلاق والأهداف التي ينوي تحقيقها. ?ومفهوم ?الآيديولوجيا ?يقابل ?مفهوم ?الحق: ?الحق ?هو ?ما ?يطابق ?ذات ?الكون، ?والآيديولوجيا ?ما ?يطابق ?ذات ?الإنسان ?في ?الكون. ?نقول ?إن ?فلاناً ?ينظر ?إلى ?الأشياء ?نظرة ?آيديولوجية ?نعني ?أنه ?يتخير ?الأشياء، ?ويؤول ?الوقائع ?بكيفية ?تظهرها ?دائماً ?مطابقة ?لما ?يعتقد ?أنه ?الحق. ?وللكلمة ?استعمالات ?كثيرة ?في ?مجال ?التنظير ?المعاصر ?نكتفي ?بتلك ?المتعلقة ?بالعلوم ?السياسية. ففي هذا الباب، يرى الإنسان في آيديولوجيته الخاصة عقيدة تستحق الوفاء والتضحية وفي آيديولوجيا الخصوم أقنعة تتستر وراءها نوايا خفية. وفي الحقل السياسي لا يحكم عليها من زاوية الحق والباطل، وإنما يصفها فقط بالنظر إلى فعاليتها. وفي مجال العلوم السياسية، يميز المختصون الانغلوساكسونيون بين السياسي ‏?(?polity?) ?: ?أي ?السلطة ?السياسية، ?حكومة ?الناخبين ?داخل ?المجال ?السياسي ?العام، ?مجموعة ?من ?الميكانزمات ?التي ?تبلور ?وحدة ?وديمومة ?الحقل ?الاجتماعي. ?ولعالم ?الاجتماع ?الأميركي ?تالكوت ?بارسونس تعريف ?شامل ?لذلك: «كل ?شأن ?يعتبر ?سياسياً ?عندما ?يهتم ?بتنظيم ?وتعبئة ?الموارد ?الضرورية ?لإنجاز ?أهداف ?المجموعة ?البشرية». ?أما ?(?politics?)? ?أي ?السياسة: ?فهي ?الحياة ?السياسية، ?حلبة ?الصراع ?التي ?يتبارز ?داخلها ?الفاعلون ?السياسيون ?ليس ?بالأيدي ?والشعارات ?الرنانة ?والسب ?والقذف ?والشعبوية ?الزائفة، ?ولكن ?بالآيديولوجيات ?والبرامج ?السياسية ?لتصل ?المجوعات ?الحزبية ?السياسية ?إلى ?سدة ?الحكم، ?أما policy أي ?سياسة: ?فهو ?الفعل ?السياسي، ?وخطة ?الطريق ?الدالة ?على ?وجود ?السلطة ?السياسية ?والتي ?تخلق ?مجموعة ?من ?القرارات ?والعمليات ?المحسوسة ?ذات ?الصبغة ?العامة. هاته إجمالاً مجموعة المفاهيم التي يمكن إعطاؤها لكلمة السياسة، وهي جد دقيقة وتحتاج إلى فاعلين أكفاء يفهمون أصول الكلام، أي التنظير، وأصول العمل أي التطبيق.. فكأن يظن الإنسان أن الانتخابات هي وسيلة للوصول إلى غايات استبدادية أو التأصيل لآيديولوجيا خاطئة أو مبادئ يكون المجال السياسي في غنى عنها أو معارضة لها، فذلك مؤذن بفقدان الشرعية السياسية الحقيقية، ومود بالبلاد والعباد إلى الدمار في كل تجلياته. ونحن نتحدث عن الآيديولوجيا في المجال العام السياسي، قد يقول قائل إن أي فاعل سياسي في الحكم يحتاج إلى آيديولوجيا كيفما كان نوعها لأن أجهزة القمع المادي لا تكفي لتسعف نظاماً منتخباً بالبقاء والاستقرار والتحكم في إدارة السيطرة السياسية، كما قال غرامشي عند تفسيره لمفهوم الهيمنة، لكن أجهزة الدولة الآيديولوجية حسب تعبير ألتوسير، عندما تنهض بدور الهيمنة، فإنها تنبثق انطلاقاً من مسلمات سياسية مقبولة داخل المجال السياسي العام، وإذا اتسمت تلك الآيديولوجيا بالإقصائية، كما كانت عند هتلر مثلاً، أو طبعت بلون ديني صرف، فإن فعل الآيديولوجيا هنا لن يكون فعل هيمنة ديمقراطية وإنما سيكون فعل عنف قد لا يلمس لكنه يلحظ في علاقة المؤسسات بعضها ببعض والأفراد بعضهم ببعض، وسيحدث في المجتمع شرخاً كبيراً في جدار القشرة الحامية للبلد. فالآيديولوجيا في يومنا هذا لا يمكن أن تنجح إلا إذا كانت عبارة عن قناعة وفعل هيمنة ديمقراطيتين، تقبل شروط الاختلاف في مجال سياسي متعدد، وإلا فستبقى الشرعية السياسية ولو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع ملتبسة الشخصية والطبيعة بسبب تكوينها الهجين وصورية القيم السياسية المثلى التي من دونها لا يمكن تمثيل وتحقيق مصالح المواطنين بالطريقة الصحيحة.